علمٌ وفكر

انضغاط الزمكان

عبدالله الهميلي

 

حين نتأمل في العولمة بوصفها دينامية تتجاوز مجرد الانفتاح الاقتصادي أو الثقافي، نكتشف أن بنيتها العميقة ترتكز على مفهوم "انضغاط الزمان والمكان"، ذلك المفهوم الذي بلوره ديفيد هارفي ضمن إطار تحليله لمرحلة ما بعد الحداثة. فالعولمة لا تتحرك فقط كقوة تجارية وسياسية، بل تخلخل الإيقاعات الوجودية ذاتها، وتعيد هندسة العلاقة بين الوجود الإنساني والزمان – المكان. إن تسارع التدفقات الرقمية، وانتقال الصورة والبيان والرمز في لحظة، يحيلنا إلى فضاء جديد يمكن وصفه بكونه "زمكانًا متشظّيًا"، حيث لم يعد البعدان التقليديان للزمن والمكان يحكمان التجربة البشرية كما كانا يفعلان في العصور السابقة.

 

ديفيد هارفي في رؤيته يقف عند هذه النقطة ليميّز كيف أن الرأسمالية المتأخرة أعادت صياغة تجربة الفضاء والزمن عبر تكنولوجيا الاتصال والنقل، بحيث أصبحنا أمام "ضغط" كثيف يحول العالم إلى شبكة متداخلة، ويُحوّل الجغرافيا إلى طبقة شفافة قابلة للاجتياز الفوري. لكن ما يغدو أكثر إثارة، حين نقرأ هذه الرؤية في ضوء فلسفة العلم والمستقبليات، هو أن هذا الانضغاط ليس مجرد استعارة اجتماعية، بل يجد صداه العميق في البنى الفيزيائية نفسها مثلاً:

 

  • نظرية النسبية حيث الزمن والمكان ليسا جوهرين منفصلين بل وحدة ديناميكية مرنة.  
  • فيزياء الكم حيث التراكب واللا–موضعية يتحدّيان الخطية السببية للزمن والمكان.

 

العولمة الرقمية اليوم تُنتج ما يمكن وصفه بالزمكان الاحتمالي فضاء لا تحكمه خطية نيوتونية، بل احتمالات كمومية. الرسالة التي تُرسل عبر شبكة رقمية تصل قبل أن تُستوعب، والمعنى يتشكل في آن واحد في مراكز متعددة، كما لو كنا إزاء تجلٍ للترابط الكمومي بين العقول والأنظمة. ليصبح الاتصال المعاصر أكثر من كونه مجرد نقل للمعلومة؛ إنه ممارسة فيزيائية – أنطولوجية تُعيد برمجة الإدراك.

 

لقد أشار بعض علماء الاتصال إلى أن الفضاء الرقمي يخلق "لحظة آنية كونية" حيث يُبنى الوعي الجماعي في التزامن، بقطع النظر عن الفواصل المكانية. هذه اللحظة أشبه بما يسميه هايزنبرغ "تحديد الموقع عبر القياس"، حيث يُختزل التمدد اللامتناهي في نقطة إدراكية.

 

إن الانضغاط الزمني – المكاني لا يعني إذًا مجرد تسارع، بل إعادة تعريف لمفهوم المسافة والمدة. أرى في هذا الانضغاط أنه يكشف عن انتقال من أنطولوجيا الامتداد إلى أنطولوجيا الاحتمال من عالم تُقاس فيه الظواهر بالأمتار والثواني، إلى عالم تتحدد فيه القيم بالسّرعة، بالترابط، وبإمكانية التواجد المتزامن. تلتقي العولمة الرقميّة مع ميكانيكا الكم والنسبية:

 

  • الأولى عبر اختراقها للحواجز المكانية والثقافية.
  • والثانية عبر إظهارها أن الزمان والمكان ليسا إلا نسبتين متغيرتين في علاقة الوعي والوجود.
     

المستقبل إذن ليس مجرد امتداد للحاضر، بل هو إعادة توزيع للزمن نفسه داخل لحظة متقطعة ومتداخلة. في إطار فلسفة الاحتمال، يمكن القول إن العولمة الرقمية تجعلنا نعيش "تراكبًا زمانيًّا" حيث نحن في آنٍ واحد أبناء الحاضر / أسرى الماضي / مشاركون في المستقبل.

 

وكما أنّ المراقبة في التجربة الكمومية تغيّر من سلوك الجسيم، كذلك فإن المشاركة الرقمية تغيّر من طبيعة الزمكان الذي نختبره، بحيث يتحوّل إلى نسيج دينامي متوتر، تتخلّله قوى الاتصال/ الاقتصاد / السياسة بوصفها أشكالًا من "المجالات" التي تُثني وتُعيد تشكيل خطوط الزمن والمكان.

 

بذلك لا يعود الانضغاط الزمكاني مجرد مقولة وصفية في علم الاجتماع أو الاتصال، بل يتحوّل إلى مبدأ إبستمولوجي جديد، يربط بين الفلسفة والفيزياء، بين المستقبل والاحتمال، بين الإدراك الإنساني وطرائق تكنولوجيته. وهو ما يفرض علينا إعادة التفكير في الذات، لا ككائن مقيم داخل فضاء محدّد وزمن خطي، بل كشبكة احتمالية تعيش داخل تدفقات غير متجانسة، حيث الحاضر لم يعد سوى تقاطع مؤقت لموجات زمنية – مكانية متراكبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من حسابه عبر منصة إكس

https://x.com/alhmail/status/1971804228927598854

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد