قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}(1) ما هي طبيعة هذا الأذى الذي تُشير إليه الآية والذي آذى به بنو إسرائيل نبيَّ الله موسى (ع) ؟
الجواب:
يظهر من الآية المباركة أنَّ ثمة جماعةً من المسلمين كانوا يُؤذون النبيَّ الكريم (ص) فخاطبتهم هذه الآية بالنهي عن إيذائه كي لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى (ع) فبرأه الله تعالى ممَّا قالوا، ويظهر من الآية المباركة أنَّ طبيعة الإيذاء كان بقول الفرية والبهتان والاتِّهام بغير وجه حقٍّ فذلك هو ما يحتاج إلى أنْ يُظهرَ اللهُ تعالى براءته.
طبيعة الإيذاء الذي وقع لموسى من بني إسرائيل:
وأمَّا ما هي هذه الفرية التي اتَّهم بها بنو إسرائيل نبيَّ الله موسى (ع) فبرأه الله تعالى منها فلم يتصدَّ القرآن لبيانها واختلفت أقوال المفسِّرين في بيان طبيعتها إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول:
إنَّ الإيذاء الذي كان من بني إسرائيل لموسى (ع) هو أنَّهم أو جماعةٌ منهم زعموا أنَّه آدر أي أنَّه مبتلى بداء الأدرة وهو انتفاخ يُصيب الخصيَّة زعموا ذلك لأنَّه لم يكن يغتسل عارياً في محضرهم كما يفعلون فزعموا إنَّه إنَّما يتحفَّظ عن الاغتسال معهم خشية وقوفهم على ابتلائه بهذا الداء أو بداءٍ آخر في جلده وهو البرص أو شبهه فأظهر اللهُ براءته ممَّا اتَّهموه به وذلك بأنْ اغتسل يوماً وحده بعد أنْ وضع ثيابَه على حجرٍ قريب فذهب الحجرُ بثيابه فلحِقه عارياً فما أدركه إلا بعد أن توسَّط ملأً من بني إسرائيل فحينها علموا أنَّه معافى ممَّا نبزوه به .
ومستندُ هذا القول والذي عليه أكثر مفسِّري العامَّة –ظاهراً- هو ما رُوي عن أبي هريرة كما في جامع البيان للطبري قال: قال رسول الله (ص): إنَّ بني إسرائيل كانوا يغتسلون وهم عراة، وكان نبيُّ الله موسى حيياً، فكان يتستَّر إذا اغتسل، فطعنوا فيه بعورة، قال: فبينا نبيُّ الله يغتسل يوماً، إذ وضع ثيابه على صخرة، فانطلقت الصخرةُ واتبعها نبيُّ الله ضرباً بعصاه: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى انتهت إلى ملاءٍ من بني إسرائيل، أو توسَّطهم، فقامت، فأخذَ نبيُّ الله ثيابه، فنظروا إلى أحسن الناس خَلقاً، وأعدلَه مروءةً، فقال الملاء: قاتل اللهُ أفَّاكي بني إسرائيل، فكانت براءته التي برأه اللهُ منها"(2)
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله (ص): إنَّ موسى كان رجلاً حييَّاً ستيراً لا يُرى من جلده شيءٌ استحياءً منه فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستُّر إلا مِن عيبٍ بجلده إمَّا برصٌ وإمَّا أدرَةٌ، وإمَّا آفة، وإنَّ الله أراد أنْ يُبرئه ممَّا قالوا لموسى فخلا يوماً وحدَه فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلمَّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذَها وإنَّ الحجر عدا بثوبِه فأخذَ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجَر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملاءٍ مِن بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسنَ ما خَلَقَ اللهُ وأبرأه ممَّا يقولون، وقام الحجرُ فأخذ ثوبَه فلبِسه وطفقَ بالحجر ضرباً بعصاهُ، فواللهِ إنَّ بالحجرِ لندباً من أثرِ ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فذلك قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}(3)
وروى مسلم النيسابوري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: كان موسى عليه السلام رجلاً حيياً قال فكان لا يرى متجرداً قال فقال بنو إسرائيل إنه آدر قال: فاغتسل عند مويه فوضع ثوبه على حجر فانطلق الحجر يسعى واتبعه بعصاه يضربه ثوبي حجر ثوبي حجر حتى وقف على ملاء من بني إسرائيل ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}(4)
مناقشة القول الأول:
والذي يردُ على هذا القول بقطع النظر عن ضعف مُستنده هو أنَّه غيرُ قابلٍ للتصديق، فإنَّ ظاهر الرواية أنَّ فِرار الحجر بثياب موسى(ع) كان بعنايةٍ من الله تعالى ليُظهِر لبني إسرائيل فسادَ ما نبزوا به نبيَّهم موسى (ع) كما يظهر ذلك من مثل قوله:" وإمَّا أدرَةٌ، وإمَّا آفة، وإنَّ الله أراد أنْ يُبرئه ممَّا قالوا لموسى.."
وعليه فمفادُ الرواية هو أنَّ الله تعالى دفَعَ عن نبيِّه تُهمةً ليست بذاتِ بال بفضحِه وهتكه وكشف عورتِه أمام ملأٍ مِن بني إسرائيل، فكأنَّه دفع السيءَ بالأسوأ فدفعَ الأذى بما هو أشدُّ منه وأقسى على نفس ذي المروءة والجاه والوقار خصوصاً إذا كان من طبعه الخجل والحياء الشديد كما يظهر من الرواية حيث وصفته بأنَّه كان حييَّاً ستيراً.
ألم يكن من الممكن دفع التهمة -التي لا تُنقص من شأنِ المصاب بها ولا تحطُّ من قدره- من طريقٍ آخر لا يستوجبُ التوهين والهتك لنبيِّه وإيذائه بكشف عورته أمام الناس وذلك بأنْ يأمر نبيَّه بأن يكلِّف زوجاته بتفنيد هذه التهمة أو يأمره بنفيها وهو نبيٌّ ينبغي أن يكون مصدَّقاً أو على أسوأ التقادير يعرضُ نفسه على طبيبٍ ليتثبَّت من سلامته ثم يُكلِّفه بالإعلان عن سلامته ممَّا نبزوه به.
ثم ما هذا المشهد المُخجل والمُخزي الذي تُصوِّره الرواية عن كليم الله ونبيٍّ من أنبياء أولي العزم يعدو عارياً خلف حجرٍ بعصاه ويناديه ثوبي حجَر، ثوبي حجر يلتمسُ منه التوقُّف ليأخذ منه ثيابه؟!! ألم يقع في روعه أن يتريَّث ويتستَّر بالماء ينتظر مارَّاً يأتيه بثيابه أو يدعو الله تعالى أن يُقيِّظ له بمَن يأتيه بثيابه؟!! أليس ذلك هو ما ينقدح في نفس كلِّ عاقلٍ اتَّفقت له مثل هذه الواقعة. فلماذا يخرج من الماء عارياً يعدو خلفَ حجرٍ فيُعرِّض نفسه للتهكُّم والسخرية؟!! إنَّ نبيَّ الله موسى (ع) أكرمُ على الله تعالى من أنْ يبتليَه بمثل هذا الموقف الذي يأنفُ منه ذوو المروءات ويستفظعون الوقوع في مثله.
ثم إنَّ الرواية نسبتْ إلى موسى (ع) أنَّه فعل بالحجَر -بعد توقفه- ما لا يفعله إلا الحمقى من الناس أو الأطفال فذكرت الرواية أنَّ موسى (ع) بعد أن سوَّى عليه ثيابه طفق يضربُ الحجر بعصاه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً حتى بانَ الندبُ وأثرُ الضرب في الحجر وهو ما يُعبِّر عن أنَّ ضربه كان شديداً، ومثل هذا الفعل لا يصدرُ عن عاقلٍ!! فما هو جدوى الضرب للحجر؟! ولماذا يضربه؟! ألم يكن يُدرك أنَّ الحجر أصمُّ لا يعقِل؟! وإذا كان مسخَّراً من الله تعالى -كما قيل- فلا جُرم له يستحقُّ عليه الضرب.
ثم إنَّ هنا رواية قد تكون منافيه لرواية أبي هريرة هذه الرواية أوردها البخاري (5) في صحيحه وأوردها مسلم في صحيحه وغيرهما وكذلك وردت في طرقنا (6) وهي مروية في صحيح مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: لمَّا كان يوم حنين آثر رسولُ الله (ص) في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائةً من الإبل، وأعطى عُيينة مثل ذلك وأعطى أناساً مِن أشراف العرب، وآثرهم يومئذٍ في القسمة، فقال رجلٌ: واللهِ إنَّ هذه لقسمةٌ ما عدَلَ فيها وما أُريد فيها وجهُ الله قال: فقلتُ: والله لأخبرنَّ رسول الله (ص) قال: فأتيتُه فأخبرتُه بما قال قال: فتغيَّر وجهُه حتى كان كالصرف ثم قال: فمَن يعدل إنْ لم يعدل اللهُ ورسولُه قال: ثم قال: يرحمُ اللهُ موسى قد أُوذي بأكثرِ من هذا فصبَر قال: قلتُ: لا جَرَمَ لا أرفع إليه بعدها حديثا"(7)
فظاهر قوله (ص): "يرحمُ اللهُ موسى قد أُوذي بأكثرِ من هذا فصبَر" هو الإشارة الى الإيذاء الذي وقع لموسى (ع) من بني إسرائيل والذي أشار إليه قوله تعالى:{ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فبرأه الله مما قالوا..} وإذا كان كذلك فهو يكشفُ عن أنَّ الأذى الذى عنته الآية والذي وقع لموسى (ع) من بني إسرائيل لم يكن هو النبز بمثل الأدرة، فالنبزُ بمثله لا يُقاس بما نسبه المنافق لرسول الله (ص) من أنَّه لم يعدل في القسمة وما أراد وجه الله تعالى من هذه القسمة إنَّ مثل هذه التُّهمة أقسى بمراتب على قلب المؤمن فضلاً عن النبيِّ الأعظم (ص) من الاتِّهام بمثل الأدرة بل لا يصحُّ المقايسة بينهما، فكيف يقول الرسول (ص) إنَّ "موسى قد أُوذي بأكثرِ من هذا فصبَر" إنَّ ذلك يكشف عن أنَّ الأذية التي وقعت لموسى (ع) لم تكن من قبيل الاتِّهام بالأدرة والذي هو داءٌ يبتلى به الناس فلا يَحطُّ من أقدارهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-سورة الأحزاب: 69.
2- جامع البيان – الطبري- ج22/ 64.
3-صحيح البخاري- البخاري- ج4/ 130.
4- صحيح مسلم- مسلم النيسابوري- ج7/ 99.
5- رواه بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قسمة فقال رجل من الأنصار إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله قلت أما والله لآتين النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في ملأ فساررته فغضب حتى احمر وجهه ثم قال رحمة الله على موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر صحيح البخاري ج7/ 143.
6- قال الحسن بن موسى من غير هذا الوجه أيضًا رفعه رجل منهم حين قسم النبي صلى الله عليه وآله غنايم حنين إن هذه القسمة ما يريد الله بها؟ فقال له بعضهم: يا عدو الله تقول هذا لرسول الله؟ ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبر مقالته، فقال عليه السلام: قد أوذى أخي موسى بأكثر من هذا فصبر .." تفسير العياشي- محمد بن مسعود العياشي-ج2/ 92
7- صحيح مسلم - مسلم النيسابوري- ج3/ 109.
عدنان الحاجي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
محمود حيدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
العطاء العلمي للإمام الجواد عليه السلام
بأبي أفدي الجواد الأعظما
عرش البيان يحتفي برواية الضّامن الجديدة (ملاك)
هل أنت فضولي؟ قد يساعدك ذلك على البقاء متيقظًا كلما تقدمت في السن
كيف استشهد الإمام الجواد (عليه السلام)؟
كتاب (رفيق بلا ملامح) رحلة البحث عن الظلّ
{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} (2)
باقة من بستان علم الجواد (2)
البعل والزّوج في القرآن الكريم
{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} (1)