قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

معنى قوله تعالى:{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}

ما معنى:{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (1)

 

أمَّا كلمة {فَمُسْتَقَرٌّ} فقُرأتْ بفتح القاف، وقُرأتْ بكسرها، فبناءً على الفتح يكون مستقَر اسم مكان، ولا يصحُّ أن يكون اسم مفعول، لأنَّ قرَّ واستقرَّ فعلٌ لازم لا يتعدَّى لمفعول، فلا يكون منه اسم مفعول، فيتعيَّن كونه اسم مكان أي موضعُ استقرار، ومكانُ استقرار، فالمستقَر هو المَقر، وقد يكون مُستقَر بالفتح مصدراً ميميَّاً بمعنى الاستقرار.

 

هذا بناءً على الفتح، وأمَّا بناءً على كسر القاف فكلمةُ مستقِر اسم فاعل بمعنى القار من قرَّ الرجلُ في مكانه واستقرَّ فيه فهو مستقِرٌّ.

 

وأمَّا كلمة {وَمُسْتَوْدَعٌ} فلم تُقرأ إلا بالفتح، فيصحُّ أنْ تكون اسم مفعول كما يصحُّ أنْ تكون اسم مكان، فلو كانت اسم مفعول فهي الوديعة والشيء المودَع، ولو كانت كلمة مُستودَع اسم مكان فهي بمعنى الموضع الذي يُودَعُ فيه أي هو الظرف والمكان الذي تكون فيه الوديعة، ويُمكن أنْ يكون المُستودَع مصدراً ميميَّاً بمعنى الاستيداع.

 

 فإذا بنينا على أنَّ قراءة كلمة مستقَر بالفتح وأنَّها اسم مكان فكذلك تكون كلمة مستودَع اسم مكان لأنَّها معطوفة على مستقَر والذي هو اسم مكان، فالمناسب أن يكون المعطوف على اسم المكان اسم مكان مثله، وبذلك يكون مؤدَّى الفقرة فلكم مستقَرٌّ ولكم مُستودَع، يعني لكم مكان تستقرٌّون فيه، ولكم مكان تُودَعون فيه. فكلمة مستقر مبتدأ، ولكم جار ومجرور في محلِّ رفع خبر، ومستودع مبتدأ ولكم جار ومجرور في محلِّ رفع خبر.

 

وكذلك لو بني على أنَّ كلاً من مستقر ومستودع مصدرٌ ميمي فإنَّ مؤدَّى الفقرة سيكون فلكم مستقر، ولكم مستودع أي لكم استقرار ولكم استيداع.

 

ولو بنينا على أنَّ كلمة مستقِر بكسر القاف وأنَّها اسم فاعل فيُمكن بل الأظهر أنْ يكون مستودَع اسم مفعول، وبذلك يكون مؤدَّى الفقرة فمنكم مستقِر أي قارٌّ وثابت ومنكم مستودَع أي ومنكم أي ومنكم وديعة لا ثبات لها. أو منكم مَن استقرَّ ومنكم مَن استُودِع، ويصحُّ البناء على أنَّ مستودَع اسم مكان فيكون مؤدَّى ذلك هو: منكم مستقِرٌّ أي قارٌّ وثابت، ومنكم مستودَع أي موضعٌ ومحلٌّ للوديعة.

 

اختلاف المفسِّرين في تحديد المراد من المستقر والمستودَع:

 

هذا وقد وقع الخلاف فيما هو المراد من المستقَر والمُستودَع بناءً على أنَّ كلا منهما اسم مكان، فهل المستقَر هي الأرض، فهي موضع الاستقرار، والمستودع هو بطن الأرض"القبر" أو أنَّ المستقَر هي الأرحام، والمستودَع هي الأصلاب أو العكس أو لا هذا ولا ذاك وأنَّ المستقَر هي دار الآخرة، والمستودَع هي دار الدنيا أو غير ذلك؟.

 

ولو بُني على أنَّ المستقِر اسم فاعل والمستودَع اسم مفعول فهل المستقِر هو الانسان على الأرض والمُستودَع هو الإنسان في قبره أو أنَّ المستقِرَّ هو الإنسان في الأرحام والمستودَع هو الإنسان في الأصلاب أو العكس أو أنَّ المستقِرَّ هو المولود والمستودَع هو مَن لا يزال في الأصلاب أو الأرحام أو أنَّ المستقِرَّ هو الإنسان في دار الآخرة، والمستودَع هو الإنسان في دار الدنيا أو غير ذلك؟

 

تحديد المراد لا يخلو من إجمال:

 

والصحيح أنَّه لا يسعُنا استظهار ما هو مراد الآية الشريفة من كلمتي المستقر والمُستودَع، فما أفاده المفسِّرون مبتنٍ على ما تقتضيه دلالة كلمتي المستقر والمستودَع، فلأنَّ الاستقرار يقتضي -بحسب مدلوله اللُّغوي- الثبات نسبيَّاً، ولأنَّ الاستيداع يقتضي الزوال، إذ أنَّ الوديعة مرتَجعة إلى مُودعِها لذلك قيل مثلاً إنَّ المستقر هي الأرحام لأنَّ المكث فيها يتَّسم بالثبات بالقياس للأصلاب والتي يكون المكثُ فيها قصيراً، وهكذا هي بقية التطبيقات لكلمتي المستقر والمستودع في كلمات المفسِّرين، فهي جميعاً مبتنيةٌ على ما يقتضيه المدلول اللُّغوي للكلمتين إلا أنَّ ذلك لا يُصحِّح استظهار إرادة أحد التطبيقات دون سائرها، ولهذا فالآية مجملةٌ في هذا المقدار أي أنَّه لا يُمكن التثبُّت من المنطبَق المراد من كلمتي المستقر والمستودع.

 

ما أفادته الروايات الواردة عن أهل البيت(ع):

 

وعليه فالمرجع في تحديد المنطبَق المراد من كلمتي المستقر والمستودع هو ما ثبت عن أهل البيت (ع) إنْ وجد، وذلك لأنَّهم الأعرف على الأطلاق بمقاصد الكتاب المجيد. وقد ورد عنهم (ع) العديد من الروايات:

 

منها: ما رُوي عن صفوان عن أبي الحسن(ع) قال: كان جعفر عليه السلام يقول: فمستقرٌّ ومُستودَع، فالمستقرُّ قومٌ يُعطون الإيمان ويستقرُّ في قلوبِهم، والمستودَع قومٌ يُعطون الإيمان ثم يُسلبونَه"(2)

 

ومنها: ما رُوي عن أبي بصير عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: قلتُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال: ما يقول أهلُ بلدِك الذي أنت فيه؟ قال: قلتُ: يقولون: مستقرٌّ في الرحم، ومُستودَع في الصُلب فقال: كذبوا المستقرُّ ما استقرَّ الإيمانُ في قلبِه، فلا يُنزعُ منه أبدًا، والمستودَعُ الذي يُستودَع الإيمان زماناً ثم يُسلبه.."(3)  

 

ومنها: ما رُوي عن سعيد بن أبي الأصبغ قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه والسلام وهو يُسأل عن مستقرٍّ ومستودَع؟ قال: مستقرٌّ في الرحم ومستودَعٌ في الصلب، وقد يكون مستودَع الإيمان ثم يُنزع منه، ولقد مشى الزبير في ضوء الإيمان ونورِه حين قُبض رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله حتى مشى بالسيف وهو يقول : لا نُبايع الا عليَّاً"(4)

 

ومنها: ما رُويَ عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام في قوله:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال: "ما كان مِن الإيمان المستقِر فمستقِرٌ إلى يوم القيامة [أو أبدًا] وما كان مستودَعًا سلبَه اللهُ قبل الممات"(5)

 

ومنها: ما رُوي عن أبي الحسن الأول قال: سألتُه عن قول الله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال: المستقرُّ الإيمانُ الثابت، والمستودَع المُعار"(6) وقريبٌ منه ما ورد عن أبي عبد الله (ع) قال: إنَّ الله يقول: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} المستقرُّ الثابت، و المستودَعُ المُعَار"(7)

 

ومنها: ما في تفسير القمِّي في قوله:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال: مِن آدم {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال: المستقر الايمانُ الذي يثبتُ في قلبِ الرجل إلى أنْ يموت والمستودَع هو المسلوبُ منه الإيمان"(8)

 

تقريب دلالة الروايات:

 

وتقريبُ دلالة الروايات بناءً على قراءة الفتح وأنَّ كلاًّ من مستقَر ومستودَع اسم مكان يكون التقدير هكذا: بعضكم مستقَرُّ للإيمان والبعض الآخر مستودَع للإيمان أي أنَّ قلوب بعضِكم محلٌّ لقرار الإيمان وثباته، وقلوبُ البعض الآخر محلٌّ لاستيداع الإيمان، فالإيمان لا يعدو الوديعة في قلوبهم ولهذا فهو يزول عن المحلِّ المودَع فيه كما هو شأن كلِّ وديعة لا تبقى في يد الودَعي.

 

وبناءً على قراءة الكسر وأنَّ كلمة مستقِر اسم فاعل يكون التقدير لقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} هكذا: منكم أو بعضُكم مستقِرٌ على الإيمان ثابتٌ عليه، والبعض الآخر مستودَع للإيمان ومحِلٌّ أُودع فيه الإيمان فهو اسم مكان أو أنَّ التقدير هو أنَّ البعض الآخر أُودع الإيمان فهو اسم مفعول.

 

وقد يبنى على أنَّ المستقر والمستودع وصفٌ للإيمان كما يظهر من بعض الروايات، فالمستقِرُّ هو الإيمان الثابت، والمُستودَع هو الإيمان الزائل الذي عبَّرت عنه بعضُ الروايات بالمُعار، وبناء على ذلك يكون التقدير: فمنكم إيمانُه مستقِرٌّ وثابت، ومنكم إيمانُه مستودَع ومؤقَّت وعلى ذلك يكون مستقِرٌّ اسم فاعل أي تكون القراءة المناسبة هي الكسر.   

 

والمتحصَّل إنَّ مفاد الآية -ظاهراً- بناءً على ما هو المُستفاد من الروايات أنَّ الله تعالى منَّ عليكم فأنشأكم فتناسلتم جميعاً من نفسٍ واحدة، فكان منكم مستقِرُّ الإيمان أو محلٌّ لقرار الإيمان وثباته، وكان منكم متزلزل الإيمان أو موضعٌ للإيمان الذي لا ثبات له ولا دوام. والآية – ظاهراً- ليست في مقام الحصر وإنَّما هي بصدد بيان الأنواع التي هي مورد الاهتمام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة الأنعام: 98.

2-تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي-ج1/ 372.

3- تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي-ج1/ 371.

4-تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي-ج1/ 371.

5-تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي- ج1/ 371.

6-تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي-ج1/ 372.

7-تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي- ج1/ 373.

8- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي-   ج1/ 212.   

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد