4ـ الصبر وحساب المعادلات الإلهيّة
عندما تخرج حركة الوعي والتغيير من مكّيتها، لتعلن المواجهة، وتدافع بقوّة عن قناعاتها، فمن الطبيعي أن يقوم الآخرون بردّ فعل أشدّ شراسة ممّا كانوا يفعلون؛ ظنّاً منهم أنّ إعلان هذه الحركة عن نفسها، وانطلاقها في عنفوانها، سوف يوفِّر الظروف للقضاء نهائيّاً عليها وهي في مهدها.
هنا من الطبيعي أن يكون المؤمنون قلّةً نسبيّة. وهنا تقع معركة بدر. هنا تبدأ طبول الحرب تُعلَن من كلّ مكان، ويشهد الواقع مزيجاً من بدرٍ والأحزاب.. تهويلٌ، وتسقيط، وهجوم من جميع الجهات، وتآمر بين المتناقضات ضدّ حركة الإيمان، وسقوط كلّ المقدَّسات والحُرُمات، وتحشيد مدهش ضدّ الحركة التوعويّة الإيمانيّة يريد إنهاء وضعها تماماً.
وهنا يكون المظهر الثاني للصبر والتحمُّل، لكنّه ليس صبر سكوت، إنّه صبر مواجهة؛ ليُعلم مَنْ سيصرخ أوّلاً. قد يرتفع الغبار والضجيج في البداية حتّى عنان السماء، ويفرّ من حول المشروع بعض الضعفاء؛ هرباً بنفسه ليحيا كما يراها، ويسلّي نفسه بعناوين وهميّة كاذبة وخادعة.
في هذه اللحظة، أعني بها لحظة الانطلاق القويّ للمشروع؛ واستعداداً للمواجهة، تحتاج الحركة إلى قِيَم ومفاهيم إيمانيّة تساعدها على الاستمرار. إنّ الضربة الأولى في المرحلة المدنيّة مهمّة؛ لأنها إذا كسرت الظهر أجهضت المشروع، لكنّها إذا لم تكسِرْه قوَّتْ الحركة كلَّها، وأطلقتها نحو الأمام بطريقة عجيبة. هنا يأتي القرآن الكريم ليؤكّد مجموعة مفاهيم:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (1). فقادة المشروع وروّاده ومُطلِقوه عليهم أن يعلموا أنّ ما يكفيهم هو الله الكافي، ومَنْ معهم ممَّنْ تبقّى من المؤمنين والمخلصين. فالعدد القليل من المؤمنين كافٍ، ولا تهمّ الكثرة، التي لطالما عشقها الإنسان ومشى خلفها؛ لتمنحه الطمأنينة والسكون.
نعم، إذا ضعفت ثقة القادة بالقاعدة المؤمنة وقعت المشكلة الكبيرة، وإذا فقد الجميع الثقة بالله سبحانه تلاشت القوّة الإيمانية، التي تمثِّل حاجةً بالغة الأهميّة دوماً، ولا سيّما في مثل هذه اللحظات الحرجة...
إنّ نقطة الانطلاق هي الثقة بالله، والإيمان العميق بأنّه الكافي، قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ (2). إنّ الشعور بكفاية الله هو إيمانٌ عميق وضروريٌّ جدّاً لمواجهة غزوة بدر والأحزاب، وإلاّ ففقدانُ الثقة بالله وبالقلّة المؤمنة لا يجرّ إلاّ إلى الخسارة والتراجع. وسيجد الإنسان الكثيرين ممَّنْ يعملون على التخويف، لكنَّ قوّة الإيمان والثقة بالله تعالى تجهض عناصر التخويف هذه، وتفشل مؤثِّريتها وفاعليّتها، لأنّ المؤمن بثقته بالله سبحانه ـ مع اعتماده الأسباب ـ يرى أنّ وظيفته قد أنجزت، وأنّ الأمور لو قُدِّر لها أن تسير إلى مكانٍ غير محمود فإنّه يكون قد أراح ضميره أمام نفسه وأمام الأمّة والتاريخ، والأهمّ أمام الله سبحانه.
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ (3)؛ إذ القوّة المادّية تعادل نسبة الواحد إلى العشرة، لكنّ القوّة الإيمانية يمكن أن تضاعف من القوة المادّية، ليساوي الواحدُ العشرةَ. وهذا رقمٌ كبير جدّاً في حساب المعادلة. فلو كان الآخر أقوى منّي بعشرة أضعاف فإنّ الإيمان يمكنه أن يبلغ بي قدرة التساوي معه.
ولكنْ لمّا كانت هذه الحالة ـ رغم إمكانيّتها ـ بالغة الصعوبة، وتحتاج إلى إيمان عميق واستثنائي جدّاً، فإنّ النص القرآني يحاول التخفيف، فيقول: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ (4).
وهذا كلُّه يعني أنّ القوّة الإيمانية والصبر عنصران ضروريّان لتحقيق التوازن المفقود على المستوى المادّي، فلا يصحّ قصر النظر على العنصر المادّي، وإغفال العناصر المعنويّة الأخرى، والتي يطلق على بعضها اليوم اسم: «عقيدة الجيش». تماماً كما لا يصحّ حساب العنصر المعنوي دون العنصر المادي. فباجتماعهما يكون الصحيحُ من الحساب، والسليمُ من التفكير.
وفي هذا الإطار أيضاً تأتي النصوص القرآنيّة التي تتحدَّث عن تأييد المجاهدين بالملائكة، ليكون ذلك: ﴿ ... بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ ... ﴾ (5). إنّ هذا الأمر باعثٌ على الطمأنينة، التي تجعل العاملين في موقع الفعل والتأثير والإمساك بالأمور.
5ـ عدم الغرور بالقوّة المادّية
فقد يحقِّق المؤمنون نجاحات، وتكون لهم القوّة الاجتماعية أو السياسية أو المالية أو الفكرية والثقافية أو غيرها من عناصر القوّة في المجتمع والحياة. وعندما تأتي القوّة فإنّه يُخشى أن تحلّ بديلاً عن الله سبحانه؛ لأنّ الإنسان يشعر بها عَوْناً له، ويرى أنّ الجمهور الواسع الذي يملكه مع المال والسلاح أو غير ذلك هو عَوْنه على تحقيق مطالبه، متناسياً ـ في غمرة المادّيات ـ أنّ الله تعالى هو الذي يجب الاتّكال عليه دوماً.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ (6). إنّ الاغترار بالعَدَد والعُدّة، والمديح والثناء، وحاجة الخلق لنا.. عناصرُ خَطِرةٌ جدّاً، قد تفكّ علاقتنا بالله سبحانه، لتحلّ محلّها، فيقع السقوط المدوّي والفشل الذريع. وقد لا يكون فشلاً مادّياً، بل يكون عبارة عن فراغ المشروع والحركة من البُعْد القِيَمي والفكري والرسالي، لتتحوَّل إلى مجرَّد نشاطٍ فارغ سلطوي مصلحي توازني، لا أكثر ولا أقلّ.
نعم، قد تحصل هفواتٌ وأخطاء لا تدعو إلى الإحساس بالفشل، والتخلّي عن المشروع. فبعدما حصل للمؤمنين في حنين ما حصل قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ (7). فالله دائماً يغفر مثل هذه السقطات عندما لا تتحوَّل إلى ثقافة مهيمنة (والثقافة المهيمنة تعني مفهوماً قريباً من فكرة الإصرار على الصغائر أو الكبائر)، فتحرف المسيرة كلَّها عن الهدف.
6ـ حذر التعملق والعدوانيّة
وقد تتحقَّق النجاحات المتتالية، وإذا بالضعيف يصبح قويّاً، وبالحقير يصبح عظيماً، وبالصغير يصبح كبيراً و... هنا أكبر الأخطار، وهي أنّه عندما كنّا ضعافاً فنحن أصحاب أخلاق ورؤية ودين، أمّا عندما تقوى حركة الوعي والتغيير فهي تتخلَّى عن ذلك كلّه، إلاّ لحسابات مصلحيّة دعائيّة فقط. وكأنَّ الدين والأخلاق والفكر وسائل لبلوغ السلطة، فإذا بُلِغَت فلا قيمة لهذه الوسائل، وإنّما نستثورها عادةً وقت الحاجة.
فعندما نجاهد ونصارع للحقّ فلا يبرِّر لنا ذلك العدوان على الآخرين؛ بحجّة أنّني أصارع الباطل، أو لديَّ مشروعٌ صحيح وشرعي، قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ (8).
ليس لأنّك في معركةٍ كبرى يجوز لك أذيّة وظلم الآخرين؛ فإنّ الظلم عندما يتراكم يغيِّر الصورة كاملةً. وليس لأنّك تحمل الهمّ الإسلامي أو التغييري يجوز لك الاعتداء على الآخرين، والتضحية بحرماتهم وحقوقهم!! هذا أكبر الخطأ، أعني خطأ الشعور بدونيّة الآخرين أمام عظمة أهدافي ومشروعي وعملي (وعظمة الأنا).
إنّنا أمام تحدٍّ كبير واختبار عظيم. وقد قال النبيّ موسى عليه السلام لقومه ـ كما حدَّثنا القرآن الكريم ـ كلاماً رائعاً، قال سبحانه: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ (9). إنّ الجملة الأخيرة هي مركز التحدّي. فأنتم البديل، وسيرى الله ما تقدِّمون. فهل لديكم الجديد أم ستعيدون إجراء تجربة الماضي وأخطاءه، فتفعلون ـ بوجهٍ آخر ـ نفس جرائم مَنْ سبقكم وأنتم تشعرون أو لا تشعرون؟! إنّ الخروج من الضعف إلى القوّة، ومن المعارضة إلى السلطة، هي بداية الطريق، وليست نهايته.
أكتفي بهذا القدر من الإثارات، و نسأل الله لنا جميعاً الاستمرارَ في حركة الوعي والتغيير في الأمّة نحو الأفضل، بهَدْيِه ومَنِّه، إنّه على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. القرآن الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 64، الصفحة: 185.
2. القرآن الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 36، الصفحة: 462.
3. القرآن الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 65، الصفحة: 185.
4. القرآن الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 66، الصفحة: 185.
5. القرآن الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 126، الصفحة: 66.
6. القرآن الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 25، الصفحة: 190.
7. القرآن الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 26، الصفحة: 190.
8. القرآن الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 190، الصفحة: 29.
9. القرآن الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 129، الصفحة: 165.
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسين الخشن
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي آل محسن
الشيخ مرتضى الباشا
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
محدودية صلاحية الحمض النووي والبديل في اكتشاف أسرار التاريخ
الدعاء مظهر العبودية لله تعالى
لقب ماسيّ للفوتوغرافي الخميس كأوّل عربيّ يحصل عليه
وإنّما خلقنا في الدّنيا لنبتلى فيها!
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (5)
الرّكب الحسينيّ في المدينة المنوّرة (2)
قراءة في كتاب (العدل الإلهي) للشهيد مطهري
العبادة والتّعلّم
آداب التّكسّب
طرق إثبات النبوة الخاصة