المسألة:
﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(1).
كيف نوفِّق بين هذه الآية الكريمة التي مدحتْ عموم الصحابة وبين ما يذهب إليه الشيعةُ من عدم عدالة بعض الصحابة؟
الجواب:
عدم إرادة الإطلاق من الآية:
الآيةُ المباركة وإن كانت ظاهرةً في مدح مَن كان مع النبيِّ (ص) من الصحابة إلا أنَّه لا إطلاق لها يقتضي ثبوت المدح لعموم الصحابة، وذلك لأنَّ الإطلاق لا يمكن استظهارُه من كلام المتكلِّم لو كان ثمة قرينةٌ على عدم إرادتِه الجدِّية للإطلاق.
لذلك فالإطلاقُ غير مرادٍ جزمًا من الآية المباركة نظراً لوجود قرائن كثيرة على عدم إرادتِه، منها ما هو مستفاد من القرآن الكريم، ومنها ما هو ثابتٌ بالسُنَّة القطعية، ومنها ما يمكن التعبير عنه بالقرائن التاريخيَّة.
القرائن الدالَّة على عدم الإطلاق:
أولا: القرائن المستفادة من القرآن الكريم:
أما ما هو مستفاد من القرآن الكريم: فثمة آياتٌ كثيرة وصفت بعض الصحابة أو أخبرت عن أحوالِهم بما لا ينسجمُ مع اتِّصافهم بالنعوت المذكورة في الآية المباركة، وذلك يُعبِّر بما لا مجال معه للشك عن أنَّهم لم يكونوا مقصودين بالمدح الوارد في هذه الآية المباركة، إذ لا يصحُّ أن يكونوا مشمولين للمدح الوارد في الآية وهم على ما وصفهم به القرآن في آياتٍ أخرى.
وبتعبير آخر: إنَّ التعرُّف على محصَّل ما يُريده المتكلِّم من كلامه لا يتمُّ إلا بملاحظة مجموع خطاباتِه وإلا لزم البناء على وقوع التهافت بين خطاباته، وهذا لو كان يتناسب مع سائر المتكلِّمين فإنَّه لا يتناسب قطعًا مع القرآن الكريم الذي وصفَه اللهُ تعالى بقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(2).
ولتوثيق ما ذكرناه نستعرضُ بنحو الإيجاز الشديد نماذجَ من الآيات الواردة في وصفِ أو بيان أحوال بعض الصحابة بما لا يتناسبُ جزمًا مع إرادة العموم من الآية المباركة.
النموذج الأول: الفارُّون من الزحف!
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾(3).
فهذه الآية المباركة تُخبر عن أنَّ جمعًا من الصحابة قد ولَّوا الأدبار وفرُّوا من الزحف يوم حنين.
ولا يختلفُ أحدٌ من المسلمين في أنَّ الفرار من الزحف هو من كبائر الذنوب بل هو من المُوبِقاتِ المُستوجبةِ لدخول النار.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ / وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(4).
ولم يكن الفرارُ من الزحف يومَ حُنين هو الفرار الأول من الحرب عن رسول الله (ص) بل وقَع ذلك منهم يوم أحد.
قال تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(5).
فكيف يصحُّ أنْ نصف مثل هؤلاء بقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ﴾(6) وهم قد فرَّوا من زحف الكفار يوم حُنينٍ ويوم أحد، وكيف يصحُّ وصفُهم بذلك وقد أخبر القرآن الكريم عن حالِهم يوم فرارِهم عن رسول الله (ص) في أحد، فهم يُصعِدون ويجدُّون في الفرار ولا ينعطفون على أحدٍ مشغولين بأنفسِهم رغم أنَّ رسولَ الله (ص) كان يدعوهم إلا أنَّ دعوتَه ومناشدتَه لم تكن لتلقى منهم أذنًا صاغية، فهي لا تكادُ تبلغ أوائل الفارِّين حتى تصل إلى أخراهم، وذلك تعبيرٌ عن تسابقِهم في الفِرارِ عن رسولِ الله (ص).
النموذج الثاني: الموالون للكفار!
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾(7).
فهذه الآية المباركة تكشفُ عن انَّ بعضاً من الذين آمنوا ممَّن كان مع رسول الله (ص) كان يُكنُّ الولاء والود للكافرين، وقد أكَّدت الروايات الواردة في أسباب نزول الآية المباركة على ذلك(8)، وعليه كيف يصحُّ القول بأنَّ أمثال هؤلاء مشمولون لقوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ﴾ وهم يُسِّرون إليهم بالمودَّة، بل لم يكن الأمرُ مقتصراً على حمل هؤلاء لمشاعر المودَّة والولاء للكافرين رغم انَّه كافٍ لخروجهم عن التوصيف بالأشدَّاء على الكفار بل قد كانوا يُلقون إليهم بالمودَّة كما أفادت الآية المباركة، وهذا معناه أنهم يُمارسون من الأفعال ما يستدعي انتباه الكافرين إلى أنَّهم يحملون لهم مشاعر الولاء والمودَّة، وقد أفادت الروايات الواردة من طرق العامَّة بأسانيد معتبرة أنَّ بعضهم بعث لمشركي مكة برسالةٍ يكشفُ فيها عن أسرارِ المسلمين وحين فضحته هذه الآيةُ المباركة اعتذر عن ذلك بأنَّه إنَّما فعل ما فعل حياطةً لأهلِه بمكة(9).
النموذج الثالث: المفترون على نساء النبيِّ (ص)!
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(10).
هذه الآية صريحة في أنَّ جمعاً من أصحاب الرسول (ص) افتروا على بعض نسائِه زوراً وبهتاناً واتَّهموها بالفاحشة، فأنزل اللهُ تعالى في هذه الآية وما بعدها براءتَها، وقد أجمع المفسِّرون والمحدثون على ذلك(11).
فهل يصحُّ وصف هؤلاء بالرحماء بينهم والحال أنَّهم لم يتورَّعوا حتى عن حرم رسول الله (ص) فلم تُدركهم شفقةً برسول الله (ص) وعرضه؟! وإذا قيل إنَّ هؤلاء منافقون وهم غير مشمولين للآية المباركة قلنا: إنَّه لا ريب أنَّهم غير مشمولين للمدح الوارد في الآية المباركة إلا أنَّهم كانوا من أصحاب الرسول بمقتضى تعريف علماء أهل السنة للصحابي(12)، على أنَّ المنافقين لم يكونوا متميِّزين، وإذا كان بعضُهم معروفاً بالنفاق فإنَّ أكثرهم لم يكونوا معروفين بذلك، ولو تمَّ التسليم بأن الصحابة كانوا يُميزِّون المنافق من غيره فإن مَن جاء بعدهم لم يكن كذلك، ولهذا لا يصح الحكم على كلِّ صحابي بالعدالة تمسُّكاً بالآية المباركة بعد قيام العلم الإجمالي على أنَّ جمعاً منهم كانوا من أهل النفاق.
هذا وقد صرَّح القرآنُ الكريم بعدم تشخُّص المنافقين جميعاً فقال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾(13).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الفتح / 29.
2- سورة النساء / 82.
3- سورة التوبة / 25.
4- سورة التوبة / 25.
5- سورة آل عمران / 153.
6- سورة الفتح / 29.
7- سورة الممتحنة / 1.
8- لاحظ صحيح البخاري -البخاري- ج5 / ص89، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص83، المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص485، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص168، صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج14 / ص425، تفسير القرآن -عبد الرزاق الصنعاني- ج3 / ص286، جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج28 / ص73، أحكام القرآن -الجصاص- ج3 / ص582، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج3 / ص399، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص290 وغيرهم كثير.
9- لاحظ الهامش السابق وما أغفلناه أكثر مما ذكرناه.
10- سورة النور / 11.
11- تفسير ابن أبي حاتم -ابن أبي حاتم الرازي- ج8 / ص2543، أحكام القرآن -الجصاص- ج3 / ص355، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج2 / ص502، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج7 / ص72، تفسير البغوي -البغوي- ج3 / ص330، أحكام القرآن -ابن العربي- ج3 / ص262، زاد المسير -ابن الجوزي- ج5 / ص346، تفسير الرازي -الرازي- ج23 / ص176، تفسير القرطبي -القرطبي- ج12 / ص195، التسهيل لعلوم التنزيل -الغرناطي الكلبي- ج3 / ص61، الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج5 / ص24، لباب النقول -السيوطي- ص157، التبيان -الشيخ الطوسي- ج7 / ص414، تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج7 / ص227، تفسير نور الثقلين -الشيخ الحويزي- ج3 / ص581، تفسير الميزان -العلامة السيد الطباطبائي- ج15 / ص87.
12- أفاد ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تعريف الصحابة أنه من لقي النبي (ص) في حياته مسلمًا ومات على إسلامه ج1 ص8 فبناءً على هذا التعريف يكون المنافقون الذين لم يكونوا معروفين بالنفاق من الصحابة لأنهم كانوا في حياة رسول الله (ص) على ظاهر الإسلام وماتوا على ظاهر الإسلام فلأنَّهم لم يكونوا معروفين بالنفاق لذلك لابدَّ من البناء على أنهم من الصحابة بناءً على عنوان الصحابي من الوثاقة وحجية خبره وقوله دون الحاجة من التثبت من واقع حاله. وقال الواقدي: ورأيت أهل العلم يقولون: كل مَن رأى رسول الله (ص) وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي (ص) ولو ساعة من نهار الإصابة -ابن حجر- ج1ص87. أقول: وهذا التعريف كسابقه لا يخرج المنافق الذي بقي على ظاهر الإسلام الى أن مات. وبذلك لا يخرج من المنافقين إلا من عُرف بالنفاق وهم لا يتجاوزون عدد الأصابع ويبقى الآخرون وهم كثر في عداد الصحابة قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ فمثل هؤلاء كيف يصح عدُّهم من الممدوحين في الآية المباركة ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ..﴾ لا يقال إنهم غير مقصودين بالمدح في الآية فإنه يقال إن التعريف يقتضي دخولهم كما أن العمل جارٍ على ذلك فكلُّ من لقي رسول الله تُقبل روايته ويحرم القدح فيه كائنًا من كان.
13- سورة التوبة / 101.
محمود حيدر
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد صنقور
حيدر حب الله
السيد عادل العلوي
الشيخ مرتضى الباشا
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
الشهيد مرتضى مطهري
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (2)
الأخلاق الشخصية للنبي الأكرم (ص)
النبي الأكرم رافعة بناء القيم الحضارية والإنسانية
﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ..﴾ مناقشة في الإطلاق (1)
لمحات حول الشخصية القيادية للرسول محمّد (ص)
الشخصية المرجعية للنبيّ بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية (3)
بوح الأسرار: خلوة النبي (ص) بالزهراء (ع) قبل رحيله
الوداع الأخير
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (1)
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين