إننا سوف نغض النظر عن كل ذلك وسواه من نقاط الضعف، التي يمكن استخلاصها من هذه الرواية.. ونكتفي بتسجيل نقاط أربع، رأينا: أنها جديرة بالتسجيل نظراً لأهميتها، وهذه النقاط هي:
أولاً: إن هذه الرواية تنص: على أن ملك الروم قال لعبد الملك: إنه لا ينقش من الدراهم والدنانير شيء إلا ما كان ينقش في بلاده، وعبد الملك يصدق بذلك ويخاف منه؛ حيث إنه لا يمحى سب النبي (ص) بعد من مملكة العرب أصلاً.. مع أن الرواية نفسها تنص على أنه كان هناك ثلاث فئات من الدراهم الكسروية المتداولة في ذلك الوقت.. كما أن الدنانير الكسروية كانت متداولة في تلك الفترة بكثرة أيضاً..
فكيف يكون موقفنا من هذا التناقض الموجود في الرواية ؟!. ولماذا الخوف من عبد الملك؟! ولماذا يرفض عملة الروم كلياً ويأمر بتداول النقد الفارسي الكسروي فقط إلى أن يجد الوسيلة التي تضيع على ملك الروم أهدافه وما كان قد عقد العزم عليه ؟!.. وإذا كان قد أمر بتغيير الطراز؛ فلماذا لا يأمر بتغيير النقد؟! وأين كانت عنه حينئذ فطانته وحنكته المدعاة؟! وأيضاً لماذا لا يعلن على الملأ كذب ملك الروم في دعواه تلك؟!. ولماذا؟! ولماذ ؟ إلى آخر ما هنالك..
ثانياً: إن هذه الرواية تنص: على أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو عبد الملك، وقد أكد ذلك وأصر عليه عدد من المؤرخين والباحثين.. وذكروا: أن عمر كان قد ضربها في سنة 18ﻫ. على النقش الكسروي، ووجدت نقود مضروبة في سنة 28ﻫ أي في عهد عثمان على النقش الكسروي أيضاً. وقالوا: إن معاوية أيضاً قد ضرب نقوداً على النقش الكسروي وبعده ضربها مصعب بن الزبير على النقش ذاته فعندهم: أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو عبد الملك، خامس خلفاء الأمويين..
ولكننا لا نستطيع أن نقبل هذا الرأي، ونحن نرى أن هناك ما يثبت خلافه، وبعد هذا الرأي عن الصواب.. ويدل على أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، صلوات الله وسلامه عليه.. أما قبله، فقد أمر عمر بن الخطاب بضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها مع بعض الزيادة الطفيفة وذلك في سنة ثمانية عشرة[1].
ومما يدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام هو أول من ضرب النقد الإسلامي، ما قاله جودت باشا: "إن المسلم عند أهل العلم: أن الذي أحدث ابتداء ضرب السكة العربية هو الحجاج بأمر عبد الملك، حين كان والياً على العراق من قبله (75-76 ).
ولكن ظهر خلاف هذا عند الكشف الجديد في سنة 1276؛ وذلك أن رجلاً إيرانياً اسمه جواد، أتى دار السعادة بسكة فضية عربية، ضربت في البصرة سنة 40 من الهجرة. والفقير رأيتها بين المسكوكات القديمة عند صبحي بك أفندي، مكتوب على أحد وجهيها بالخط الكوفي: ﴿الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد﴾ وفي دورتها: "محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون". وعلى الوجه الآخر: ﴿لا إله إلا الله، وحده لا شريك له﴾ وفي دورتها: "ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة 40"[2]. انتهى. وصبحي باشا هو: أحد الوزراء العثمانيين..
وقال الحلواني المدني: لم يثبت في الرواية الصحيحة: أن أحداً من الخلفاء الأربعة ضرب سكة أصلاً إلا علي بن أبي طالب، فإنه ضرب الدراهم على ما نقله صبحي باشا المورد لي في رسالة له رسم صورة فيها ذلك الدرهم، وعزا ذلك إلى لسان الدين ابن الخطيب في الإحاطة[3].
وفي نص آخر: "وفي خلافة علي سنة 37، وكتب فيها ولي الله، وفي سنة 38و39 بسم الله ربي، وفي درهم بالخط الكوفي في جانب منها: ﴿الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد﴾. وفي دورته: محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. وفي الجانب الآخر: ﴿لا إله إلا الله، وحده لا شريك له﴾ وفي دورته ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة أربعين"[4].
وقال الكتاني: وفي مكتبتنا في قسم النقود دراهم مكتوبة بالكوفي عليها ﴿لا إله إلا الله محمد رسول الله﴾. وفي آخر الكتابة اسم "علي"، يقطع الناظر المتأمل فيها، وفي كتابتها، ونقشها القديم: أنها لعلي بن أبي طالب"[5].
ونقل السيد الأمين، والشيخ عباس القمي، عن دائرة المعارف البريطانية، ج17 ص904 عند الكلام عن المسكوكات العربية ما ترجمته: "إن أول من أمر بضرب السكة الإسلامية هو الخليفة علي بالبصرة سنة 40 من الهجرة، الموافقة لسنة 660 مسيحية، ثم أكمل الأمر بعده عبد الملك الخليفة سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 مسيحية"[6] انتهى.
وقد وجدت نقود مسكوكة في زمن عبد الملك في سنة 77، وهي دينار ذهبي[7]. وفي سنة 79 وهو دينار أيضاً. وسنة 80 وهو درهم فضي[8]. ويلاحظ أن النقش الذي وجد عليها هو بذاته النقش الذي ضربه الإمام علي في سنة 40ﻫ..
وإذا تحقق لدينا أن أول من ضرب النقد الإسلامي هو علي عليه السلام، وأن عبد الملك عندما واجه تلك المشكلة مع ملك الروم ما بين سنة 74ﻫ و 77ﻫ. إنما رجع – بإشارة أحد أحفاد علي (ع) – إلى ما كان عليه السلام قد بدأه – إذا تحقق لدينا ذلك -.
وعرفنا: أن معاوية قد عاد وضرب النقود على السكة الكسروية، بمجرد استقلاله بالحكم، وبالذات في سنة 41ﻫ. أي بعد ضرب علي عليه السلام للسكة الإسلامية بسنة واحدة فقط.. فإننا نعرف: أن معاوية قد حاول هو ومن تبعه من الأمويين وأشياعهم، وغيرهم كآل الزبير – كما أوضحته المكتشفات من مسكوكاتهم – حاول معاوية وهؤلاء – طمس السكة الإسلامية التي ضربها الإمام علي عليه السلام، وإخفاءها؛ ظلماً للحقيقة؟ وتجنياً على التاريخ لا لشيء إلا لأن ذلك من آثار علي الذي يكرهونه كل الكره، ويمقتون كل ما كان من قبله، ومن آثاره..
وقد وجد النقد الذي ضربه معاوية، وصوّره جرجي زيدان في تاريخ تمدنه، وصوّره أيضاً صاحب العقد المنير، وغيرهما.. وإذا به قد استبدل ذلك الذي قد سنّه علي (ع) في النقش على النقد.. من ذكر الله ورسوله حسبما تقدم – استبدله - بنقد[9] نقش عليه صورته متقلداً سيفه.
وفي نص آخر: أنه نقش عليه صورته وصورة خالد بن الوليد متقلدين سيفيهما. وفي نص ثالث: أن على أحد وجهيه: تصوير خسروا برويز، مكتوب على جانبه الأيمن داخل الدائرة بالخط البهلوي "معاوية أمير ورويش نيكان" أي معاوية أمير المؤمنين، وخارج الدائرة بالخط الكوفي: "بسم الله" وعلى جانبه الأيسر بالخط البهلوي أيضاً "افزوتو".
وعلى الوجه الآخر: تصوير لبيت النار، وعلى طرفيه الرجلان المراقبان للنار، وقد كتب داخل الدائرة على الجانب الأيمن بالخط البهلوي كلمة: "دان" المخففة من دار ابجرد، مدينة الضرب، وعلى الجانب الأيسر: "يه جهل" أي 41 سنة الضرب[10].
وهكذا.. يتضح أن معاوية قد حاول أن يعجل في محو كل ما هو من آثار علي ولو كان ذلك بالعودة إلى نقش بيت النار، وغير ذلك مما تقدم وإذا كان ذلك ليس غريباً على الحجاج بالنسبة لمصعب، حيث غير السكة التي ضربها مصعب، وقال: "ما نبقى من سنة الفاسق أو المنافق شيئاً "[11].. فما الذي يجعل ذلك غريباً على معاوية الذي جعل سب علي على المنابر سنة يهرم عليها الكبير ويشب عليها الصغير؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج7 ص499.
[2] التراتيب الإدارية ج1 ص421و422 والعقد المنير ج1 ص44. وحول ما كتب على النقود راجع: تاريخ الخلفاء ص217 أيضاً.
[3] التراتيب الإدارية ج1 ص418/419 عن رسالة نشر الهذيان من تاريخ جرجي زيدان ص5.
[4] التراتيب الإدارية ج1 ص420 عن وفيات الأسلاف ص361.
[5] التراتيب الإدارية ج1 ص422.
[6] أعيان الشيعة ج3 ص599 ذيل حالات امير المؤمنين(ع)، تحت عنوان: "أول من ضرب السكة الإسلامية"، وهدية الأحباب للقمي ص111 عند ذكر البيهقي لكن الأول ذكر: أن طبعة دائرة المعارف هي الـ 23 والثاني ذكر أنها الـ 13 وليراجع: العقد المنير ج1 ص45.
[7] العقد المنير ج1 ص52 عن كتاب الدينار الإسلامي ص18/19 ومجلة المقتطف جزء 9 من المجلد الرابع.
[8] مستمسك العروة الوثقى ج1 ص571/570 ط3.
[9] راجع: التراتيب الإدارية ج1 ص419و422 وج2 ص69 عن المواهب الفتحية في علوم اللغة العربية ج1 ص253و152 وعن تاريخ جودت باشا المقدمة ص274.
[10] راجع: تاريخ التمدن الإسلامي ج1 ص135 والعقد المنير ج1 ص194 تجد صورة هذا النقد وصرح المقريزي أيضاً بعودة معاوية إلى النقد الكسروي. فراجع..
[11] راجع: العقد المنير ج1 ص47 عن النقود العربية ص33. وراجع: نور القبس ص296 وفتوح البلدان للبلاذري القسم الثالث، بتحقيق صلاح الدين المنجد ص475 والعراق في العصر الأموي ص82 عن المقريزي في شذور العقود.
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ محمد صنقور
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
مَن أحبّ شيئًا لهج بذكره
(المهدوية، جدليّة الإيمان والمواجهة في الفكر العالميّ والضّمير الإنسانيّ) جديد الكاتب مجتبى السادة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (2)
الأطفال يبدأون التفكير منطقيًّا أبكر مما كان يعتقد
وقوع المجاز في القرآن (2)
سيكولوجية الكفر
المسلّمي يدشّن كتابه الجديد: (آداب المجالس الحسينيّة)
زكي السالم: (معارض الكتاب بين فشخرة الزّائرين ونفخرة المؤلّفين)
لا تجعل في قلبك غلّاً
قانون معرفة الفضائل الكلي