مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

الحج وصلته بالجهاد

إنّ آيات الحجّ تستمر حتّى تنتهي وتتصل بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). «1»

 

وليس من قبيل الصدفة - حاشا القرآن عن ذلك - أن تنتظم الآيات بهذا الشكل دون أن يكون بينها ارتباط. إنّ وحدة السياق وتوارد هذه الآيات بهذا النحو يشعر بوجود صلة قويّة بين الحجّ والعمل السياسي ولا نريد القول بأن يتحوّل الحجّ إلى ساحة قتال، ولكن أقلّ ما يوحي به السياق هو أن يكون الحجّ مرحلة للإعداد للمواجهة.

 

إنّ أقلّ ما يمكن استفادته من هذا النظم والسياق الذي جمع بين آيات الحجّ والجهاد، ومقاومة الظلم والنصر الإلهي للمظلومين هو أنّ الحجّ خير مكان لتعبئة المسلمين روحياً ونفسياً لمواجهة الظلم والظالمين، ومقارعة الاستكبار والمستكبرين والاستعمار والمستعمرين.

 

إنّه خير فرصة لأن يلوّح المسلمون المجتمعون هناك من كلّ قطر بما لديهم من قوّة وشوكة، ويعلنوا عن موقفهم السياسيّ الموحّد، ويلقّنوا الأعداء درساً لا ينسوه وإن كان هذا لا ينحصر في الحجّ، فمقارعة الظلم والظالمين والإعلان عن الاستياء ضدّ أعداء اللَّه لا يخضع لحدود الزمان والمكان.

 

هذا وقد فسّر المفسّرون المنافع بما يعمّ أُمور الدنيا والدين، فعن ابن جرير الطبري بعد نقله أقوالًا في تفسير المنافع: «وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عني بذلك (ليشهدوا منافع لهم) من العمل الّذي يرضي اللَّه والتجارة، وذلك أنّ اللَّه عم ‌ّمنافع لهم جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكّة أيّام الموسم من منافع الدنيا والآخرة ولم يخصّص شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل فذلك على العموم في المنافع». «2»

 

الكعبة و(قياماً للناس)

 

ثمّ إنّ القرآن الكريم يصف الكعبة المشرّفة بأنّها جُعلت قياماً للناس إذ يقول: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ...). «3» وقد وردت كلمة «قيام» في شأن المال أيضاً إذ يقول سبحانه: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً...). «4»

 

وهذا يوحي بوجه التشابه بين الحجّ والمال، فكما أنّ الاقتصاد والمال يقيم حياة الناس، ويضمن مصالح الأمّة الإسلامية فكذلك الحجّ، وهذا يعني أنّ إطار الحجّ لا يقتصر على العبادة والتعبّد والضراعة بل يتّسع حتّى يشمل كلّ ماله ارتباط بمصالح المسلمين ممّا يقيم حياتهم وكيانهم، وأيّ شيء يقيم حياتهم أفضل من العمل السياسي الّذي يعني مقاومة الاستعمار والاستعباد والاستغلال، وتحقيق الاستقلال في جميع المجالات، وتنبيه المسلمين باستمرار على ما يدور حولهم من مؤامرات وكيد ومكر، ودفعهم إلى اتّخاذ موقف واحد موحّد يجابه العدو ويصدّ المهاجم.

 

ثمّ إذا كان المال لا يجوز إعطاؤه للسفهاء الذين لا يعرفون كيف يتصرّفون فيه لعدم رشدهم أو لنقصان عقولهم، فلا يجوز بطريق أولى أن يُترك الحجّ لمن لا يعرفون قيمته ووزنه وأهميّته في حياة الأُمّة الإسلامية.

 

وإليك ما قاله بعض المفسّرين في هذه الآية: قال ابن جرير الطبري: «يقول تعالى ذكره: صيّر اللَّه الكعبة البيت الحرام قواماً للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز قويّهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، وجعلها معالم لدينهم ومصالح أمورهم». «5»

 

وفي تفسير المنار: «إنّه جعلها قياماً للناس في أمر دينهم المهذِّب لأخلاقهم المزكّي لأنفسهم بما فرض عليهم من الحجّ الذي هو من أعظم أركان الدين لأنّه عبادة روحية مالية اجتماعية».

 

وقال أيضاً: «إنّ جعل اللَّه تعالى هذه الأشياء – أي مناسك الحجّ - هو جعل تكوينيّ تشريعي معاً وهو عامّ شامل لما تقوم به وتتحقّق مصالح دينهم ودنياهم». «6»

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحج : 38 - 40.

(2) تفسير الطبري : 17 / 108.

(3) المائدة : 97.

(4) النساء : 5.

(5) تفسير الطبري : 7 / 49.

(6) تفسير المنار : 7 / 119.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد