مقالات

بطولة الإمام السّجّاد (ع) في الأسر

السيد محمد رضا الجلالي

 

إن البطولة التي أبداها الإمام السجاد عليه السلام بعد كربلاء، وهو في أسر الأعداء، وفي الكوفة في مجلس أميرها، وفي الشام في مجلس ملكها، لا تقل هذه البطولة أهمية – من الناحية السياسية - عن بطولة الميدان، وعلى الأقل: لا يقف تلك المواقف البطولية من هالته المصارع الدامية في كربلاء، أو فجعته التضحيات الجسيمة التي قدمت أمامه، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممن فضل السلامة.

 

نعم، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلا من صاحب قلب جسور، صلب يتحمل كل الآلام، ويتصدى لتحقيق كل الآمال، التي من أجلها حضر في ميدان كربلاء من حضر، وناضل من ناضل، واستشهد من استشهد، والآن يقف - ليؤدي دورًا آخر - من بقي حيًّا من أصحاب كربلاء، ولو في الأسر.

 

إن الدور الذي أداه الإمام السجاد عليه السلام، بلسانه الذي أفصح عن الحق ببلاغة معجزة، فأتم الحجة على الجميع، بكل وضوح، وكشف عن تزوير الحكام الظالمين، بكل جلاء، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام. إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد، من أثر سيف واحد، يجرده الإمام في وجه الظلمة، إذ لم يجد معينًا في تلك الظروف الصعبة.

 

لكنه كان الشاهد الوحيد، الذي حضر معركة كربلاء بجميع مشاهدها، من بدايتها، بمقدماتها وأحداثها وملابساتها وما تعقبها، وهو المصدق الأمين في كل ما يرويه ويحكيه عنها. فكان وجوده استمرارًا عينيًّا لها، وناطقًا رسميًّا عنها. مع أن وجوده، وهو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهية بكل فروع: العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والعرفان، بل المثال الكامل للإسلام في تصرفاته وسيرته وسنته، والناطق عن القرآن المفسر الحي لآياته، إن وجوده - حيًّا - كان أنفع للإسلام وأنجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل، والجفاف القاتل، في المجتمع الإسلامي.

 

كان وجوده أقض لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيف وسيف، لأن الإسلام إنما يحافظ عليه ببقاء أفكاره وقيمه، والأعداء إنما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضده، وإذا كان شخص مثل الإمام موجودًا في الساحة، فإنه - لا ريب - أعظم سد أمام محاولات الأعداء.

 

وكذلك الأعداء إنما يبادون بضرب أهدافهم، واجتثاب بدعهم وفضح أحابيلهم، والكشف عن دجلهم، ورفع الأغطية عن نياتهم الشريرة تجاه هذا الدين وأهله، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحق والعدل. وعلى يد الإمام السجاد عليه السلام يمكن أن يتم ذلك بأوثق شكل وأتم صورة، وأعمق تأثير.

 

ثم، أليس الجهاد بالكلمة واحدًا من أشكال الجهاد، وإن كان أضعفها؟ بل، إذا انحصر الأمر به، فهو الجهاد كلّه بل أفضله، في مثل مواقف الإمام السجاد عليه السلام، كما ورد في الحديث الشريف، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (1).

 

ولنصغ إلى الإمام السجاد عليه السلام في بعض تلك المواقف: فمن كلام له عليه السلام كان يعلنه وهو في أسر بني أمية: (أيها الناس! إن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء. ألا، وإن الله تعالى أكرم أقوامًا بآبائهم، فحفظ الأبناء بالآباء، لقوله تعالى: *وكان أبوهما صالحا* [سورة الكهف الآية (82)] فأكرمهما. ونحن - والله - عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأكرمونا لأجل رسول الله، لأن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في منبره: "احفظوني في عترتي وأهل بيتي، فمن حفظني حفظه الله، ومن آذاني فعليه لعنة الله، ألا فلعنة الله على من آذاني فيهم" حتى قالها ثلاث مرات. ونحن - والله - أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن...) (2).

 

وبهذه الصراحة والقوة والبلاغة، عرف الإمام السجاد عليه السلام للمتفرجين – ولمن وراءهم - هذا الركب المأسور، الذي نبزوه بأنه ركب الخوارج! ففضح الدعايات، وأعلن بذلك أنه ركب يتألف من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وأفصح بتلاوة الآيات والأحاديث، أنه ركب يحمل القرآن والسنة، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب والسنة.

 

وهو - من لسان هذين المصدرين - يصب اللعنة والنقمة على من آذى هذا الركب، من دون أن يمكن الأعداء من التعرض له، لأنه عليه السلام إنما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه! كان هذا الموقف، حين أخذ الناس الوجوم، من عظم ما جرى في وقعة كربلاء، وما حل بأهل البيت عليه السلام من التقتيل والأسر، وذهلوا حينما رأوا الحسين سبط الرسول وأهله وأصحابه مجزرين! ويرون اليوم ابنه، وعيالاته أسرى، يساقون في العواصم الإسلامية.

 

والأسر - في قاموس البشر - يوحي معاني الذل والهوان، والضعف والانكسار! هذا، والناس يفتخرون بالانتماء إلى دين الرسول وسنته. والأنكى من ذلك أن الجرائم وقعت ولما يمض على وفاة الرسول - جد هؤلاء الأسرى - نصف قرن من الزمن!

 

وموقفه الآخر في مجلس يزيد، فقد أوضح فيه عن هويته الشخصية، فلم يدع لجاهل عذرًا في الجلوس المريب، وذلك في المجلس الذي أقامه يزيد، للاحتفال بنشوة الانتصار ولا بد أنه جمع فيه الرؤوس والأعيان، فانبرى الإمام السجاد عليه السلام، في خطبته البليغة الرائعة، التي لم يزل يقول فيها: (أنا . . . أنا . . .) معرّفًا بنفسه، وذاكرًا أمجاد أسلافه (حتى ضج المجلس بالبكاء والنحيب).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الروض النضير (5 / 13) وانظر الكنى للدولابي (1 / 78).

(2) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (ص 95) عن المنتخب للطريحي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد