مقالات

كربلاء، وطني المؤقت وذاكرتي الأبدية

عبدالله النصر

 

زرتُ كربلاء، لا سائحًا ولا متفرّجًا، بل كمن عاد إلى أصل لا يملكُ أن ينكره، إلى تراب تخطّى التراب، إلى مكانٍ تحوّل فيه التاريخ إلى وجدان، والرماد إلى ضوء، والدم إلى كتابٍ مفتوح على امتداد الإنسان.

 

في كربلاء، وجدتُ الإنسان متجليًا، متحررًا من شيفرات اللون واللغة والمنشأ، لا فرق بين عجمي وعربي، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين غني يتكئ على ظلال الثراء، وفقير لا يملك إلا قلبه، فالكل سواء أمام الحسين عليه السلام، ذاك الذي انكسر جسده لينهض بهم، وفُصل رأسه ليتصلوا بالسماء.

 

رأيتُ السواد الأعظم لا كهيئة لباسيّة، بل كثقافة محلّقة، كفكرٍ متواطِنٍ في الروح، كصوتٍ واحدٍ ينبض من حناجر مختلفة، ينظر بعضهم إلى بعض بإجلال يليق بالأنبياء، ويتعارفون كأنهم أرواح تلاقت قبل هذا الكون، ثم افترقت لتعود.

 

في تلك الجنّة المؤقتة على الأرض، تلاقحت الأرواح كما الأفكار، وتداخل الوجدان مع العقل، فتلقيت دعوة نقية كالوضوء، من أحد أولئك الذين لا يعرفهم اللقب بل الرسالة، من مثقفٍ مفكرٍ باحثٍ رسالي، وهو الأستاذ الدكتور عباس التميمي، دعاني لأشاركهم أمسية أدبية وقصصية، معيته زوجه الدكتورة انتصار السبتي، لا كضيف، بل كمن وجد مكانه، وفاض زمانه بالكرم وحُسن الضيافة، ورقي التكريم، وجمال الهدايا وثقلها الفكري والمعنوي.

 

أقمتُ المحاضرة، فانبعثت الكلمات من داخلي كعصفورٍ تعلّم الطيران أخيرًا، لا لأني أحسن الطيران، بل لأن فضاءهم الطاهر علّمني كيف أُحلّق.

 

ما شهدته كان أسمى من مجرد لقاء ثقافي.. كان تجليًا للمعنى، كان انفتاحًا لشرفات الفكر، كانت الأرواح مُنْصِتَة كما تنصت النجوم لموسيقى المجرة. تعليقاتهم لم تكن مجرد آراء، بل مرايا نقدية نقية، لا تجرح بل تهدي، لا تهدم بل تبني، نابعة من حب خالص للكلمة، للمعرفة، للحقيقة.

 

ولأن اللقاء لا يكتمل إلا بعقولٍ تحمل الوهج، وأرواحٍ تعرف كيف تُثمر، فقد كان الحضور من نخبة الدكاترة والأساتذة في الأدب والفكر بشتى مجالاته، الذين أثْرَوا الأمسية وميّزوها بأفكارهم العميقة، ونقدهم البنّاء، وحوارهم الراقي، فأشعروني كضيفٍ بروح الرفعة والرقي. لم يكن حضورهم زينة للمكان، بل كانوا قلبَه النابض، وصوته العارف، إذ رفعوا المعنويات، ووضعوني ـ بنقدهم الواضح المفيد ـ على الطريق، لا زائرًا عابرًا، بل كاتبًا مرفوع الهامة، مطمئن الخطى، ممتنًّا للضوء الذي أضاءوه داخلي.

 

هناك، في كربلاء، لم أقدم فقط أمسية، بل استلمت مفاتيح لمشاريع إبداعية كبرى، بدأت تُخَطّ خارطتها من خلال ذلك التفاعل الحي، وستُسهم، بلا شك، في إثراء الساحة الأدبية والثقافية، لأنها نابعة من تربةٍ خصبةٍ بالتضحية، متخمةٍ بالحكمة، مشبعةٍ بالروح.

 

ولأن الأرواح تعرف بعضها قبل الجسد، شعرتُ أنني بينهم، لا كغريبٍ حلّ، بل كواحدٍ منهم، كنتُ أشتهي أن لا تنتهي الجلسة، وأن لا أغادر، وأن أبقى في كنفهم، في ذلك الجو المشبع برائحة الطين والقداسة، في حضرة الحسين عليه السلام الذي علّمنا أن الكلمة موقف، وأن الأدب مقاومة، وأن الإنسان، إن لم يكن حرًّا، فهو لم يولد بعد.

 

كربلاء، يا ضوء المعنى، يا موئل الأرواح العالية، يا أرضًا لا تغيب عنها الشمس لأنها مزروعة في القلوب، لقد علّمتِني أن الأدب لا يُكتب بالحبر، بل بالدمع، وأن القصة لا تُروى من الخيال، بل من نبض الحقيقة، وأن أصدق القراء هم أولئك الذين يحملون الشهادة دون أن يكتبوا اسمهم على ورقة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد