مقالات

دور الأربعين بين الشعائر الدينية في إحياء ذكرى عاشوراء (2)

السيد محمد رضا الجلالي

 

وإذا قرأنا التاريخ

 

نجد أنّ المستكبرين الطغاة جهدوا في عصورهم الطويلة، وسعوا بما يملكون من المكر والحيلة لإخماد حركة المستضعفين في طريق الحسين، وإطفاء نور نهضته المقدّسة، فلم يزد الظالمين إلاّ خساراً وإنّما زاد نار الناس أواراً، بدءًا بالأمويين، إلى العبّاسيّين، ومنهم المتوكّل الذي حرث أرض كربلاء ليمحوَ أثر المرقد، فباء بالفشل.

 

وكُلّما حاولوا منع اتّجاه الناس إلى المرقدين والحرمين، لم ينقصوا منهم بل زادوهم كثرة وكثرة وكثرة، حتّى أصبح المُشاة على أقدامهم من جميع قطاعات الشعب وأصنافهم، متّجهين إلى كربلاء ومن مختلف أقطار العالم وبلدانه، ما ناهَزَ الملايين!

 

إنّا نرى أنّ المستضعفين في كلّ بلاد العالم المعاصر من أعلى الشمال إلى أدنى الجنوب، ومن منطلق الشرق إلى منتهى الغرب، على اختلاف مِللهم وأديانهم ومذاهبهم وفرقهم، قد استيقظوا وانتبهوا إلى نهضة الحسين (عليه السلام) فتراهم توجّهوا إلى كربلائه وحرمه ومرقده، أفراداً وزرافات ومُشاةً وركباناً، ليتزوّدوا من روح الحسين (عليه السلام).

 

إنّ هذه المواكب من داخل العراق وخارجه، مظاهرة عظيمة ـ قلّ مثيلها في العالم ـ من حيث الكمّ المشارك، ومن حيث الكيف باحتوائها لجميع أطياف المجتمع باختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم ومذاهبهم. فتجد في المشاركين من الرجال والنساء والأطفال والشباب، فهم يمثّلون «جيشاً» عرمرماً جبّاراً.

 

وأهمّ ما فيها أنّها اجتمعت وتهيّأت بدون دعوة داع، أو صوت نداء، أو ترتيب جهة معيّنة، وإنّما يقوم بها الشعوب بطوع إرادتها وترتّبها بإدارتها، ويؤدّون واجباتها. والمشاة منهم من البعد والقرب، من داخل العراق وخارجه، يعدّون بالملايين.

 

إنّ هذه الظاهرة العظيمة الفريدة في عصرنا، لهيَ أكبر شاهد على ما ذكرنا من أنّ ما خلّده الحسين (عليه السلام) بنهضته العظيمة، يقوم على أكتاف المستضعفين من الأُمّة.

 

وأمّا الثوّار

 

فقد أدّوا ما عليهم في مختلف الأدوار، حيث تحرّكوا بشعار «يا لثارات الحسين» بدءًا بالتوّابين الأبرار، ومروراً بالمختار المغوار، وزيد الشهيد أبي الأحرار، وبالسادات الأخيار مثل الحسين الفخّي، وسائر بني النبيّ المختار عليهم صلوات الله. فقدّموا التضحيات الكبار، لتخليد اسم الحسين (عليه السلام) ونهضته، وتبعهم الشيعة الكرام في كلّ المدن والدول التي حَلُّوا بها أو أقاموا بها أو مرّوا بها.

 

وأمّا في عصرنا

 

فالمجاهدون الذين قاوموا طاغية العراق لفترات طويلة، وقدّموا شُهداء عظاماً من أهل العلم والمعرفة والفضيلة، فقد بلغوا ـ بعون الله، وعلى أيدي وأكتاف وأعين الشعب العراقي الجليل ـ إلى سُدّة الحكم والسلطة وفّقهم الله ليقدّموا للشعب المظلوم الأهداف التي أعلنوها، وما يليق بالعناوين التي سمّوا بها أحزابهم والوعود التي أطلقوها، وبالخصوص ما يرتبط بإثارة شعار الحسين ونهضته، فلا يتركوا الناس بمفردهم بما يلزم لإقامة الشعائر من دون دَعْم الدولة وأجهزتها مادّياً ومعنوياً، ولا يفسحوا المجال للمثقّفين المدّعين للحرّية والمدنيّة والديمقراطية بالتعدّي على مواهب الشعب وشعوره وعواطفه تجاه الشعائر الحسينية والمراسم والمواكب، فإنّ الشعب الحسينيّ سوف يكون بالمرصاد لمن يمسُّ هذه الشعائر، أو ما يمتُّ بالحسين ونهضته مهما كان، وممّن كان، وأين ما كان.

 

وإنّ ما يقوم به الشعب الشيعيّ في مراسم عاشورا، والمظاهرة المليونية التي يشترك فيها المسلمون والمستضعفون من سائر الأديان والمذاهب لهو إنذار لمن يدورُ في مخيّلته المساس بالعواطف الحسينيّة، وكلّ فرد من المشتركين فيها يمثّل قنبلةً تنفجر في جموع المعتدين، وكلّ خطوة هي طلقة في صدور المعاندين.

 

وإذا خسئ الصنم الطاغوت، ولم يتمكّن من إخماد روح الولاء للحسين أو إطفاء نور النهضة الحسينية، في قلوب الناس وعقولهم، فكيف يتمكّن هؤلاء الخفافيش الذين يعملون في الظلام وبالسرّ، بأعمال الإرهاب، والتفجيرات والاغتيالات؟!

 

إنّ المستضعفين الحسينيين هم الأقدر على الأكبر والأقوى والأشدّ من هذه الأعمال، لكن قضيّتهم وأهدافهم وثقافتهم أسمى وأنبل وأعلى من أُولئك النواصب الجهلة والقتلة، وهم أكرم وأورع من أن يقوموا بالأعمال الهزيلة والرذيلة والضحلة التي يقوم بها أولئك الوحوش.

 

إنّما الموالون يقومون في وضح النهار بمثل اجتماع الأربعين المليونية، وتظهره أمام العالم، وهم يُعلنون بعقيدتهم الحقّة ونواياهم الطيّبة ويعبّرون بأعلى أصواتهم عن ولائهم لأشرف الناس محمّد وآل محمّد والسير على هدي الإسلام في القرآن الكريم وعترة الرسول أهل بيته الطاهرين.

 

إنّ هذه المظاهرة، وبهذه الصورة والسيرة، وبهذا الهدف السامي هو الذي بهر العالم، ووقفت الشعوب على حقيقة التشيّع وما يملكه الشيعة من روح وصمود وحُبّ، كما يدلّ على وحدة الشيعة في إرادتهم الحفاظ على عقيدتهم بإدارة حازمة وتنظيم تعجز عنها أعتى السلطات في عالم السياسة والقوّة.

 

وذلك كلّه اقتداءً بالنهضة الحسينية وأهدافها وآثارها، فإنّها تعتمد على الحسين الذي كان إماماً، إلهيّاً، ولم يكن ملكاً ولا خليفة ولا حاكماً عسكرياً، بل كان قدوة عقائدياً، وطالباً للحقّ الإلهي، ومُصلحاً دينياً، فقد قدّم جميع ما عنده في سبيل الله، ولذلك وهبه الله هذه الولاية والمحبّة في قلوب المؤمنين به وبنهضته، وهذه المكانة والعظمة والقدرة على جميع الناس في مثل هذا المجمع العظيم، الذي لا مثيل له. وهكذا خلّد العَبْرة للمستضعفين، فورثوها للقيام بالشعائر بأحسن صورها وتمثيلها، فتخلّد النهضة الحسينية في عيونهم وعقولهم. كما خلّد العِبرة في قيامهم بها ليرهبوا الأعداء، ويصدّوهم عن التجاوزوالظلم.

 

إنّ هذين الأمرين الخالدين «العَبرة، والعِبرة» سوف تستأصل في النهاية جذور الظلم والعدوان، وتجتثّ بذورهم، وتقطع دابرهم مهما كانوا مسيطرين على الحكم والدولة والسلطة، ومهما تلوّنت باسم الثقافة والديمقراطية ومهما تفنّنت في القساوة والوحشية فلابدّ أن تقوم حركة المستضعفين وتستمرّ حتّى يظهر المصلح الموعود وارث الحسين في إمامته وكرامته وأهدافه، وثاره، ليقوم بدولة كريمة يُعزّ بها الإسلام وأهله ويهلك ملوك الشرك وأهله ويتمّ المنّة ﴿ ... عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد