مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

الذّكر والتّقوى، أمان وقوّة

لا نقصد بالذكر التسبيح والتحميد فقط وإن كان ذلك من الذكر، ومن أوضح مصاديقه، وإنما نقصد بالذكر؛ أن يبقى الإنسان العامل في ساحة العمل، في الإدارة، والقيادة، ومواجهة المشاكل، مرتبطاً بالله تعالى، واضعاً ثقته في الله، مشدوداً بالله، داعياً الله أن ينصره ولا يخذله، ويتولى أموره، ولا يكله إلى نفسه.. وهذا الذكر لا يتعارض مع العمل؛ بل يقوى به العمل، وهذا هو الذكر الذي يأمرنا به الله تعالى في ساحة المعركة.

 

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [1].

 

وهذه أربع تعليمات في ساحة القتال: الصبر، والذكر، والطاعة، والتفاهم. وهذه الأربعة هي من أهم عوامل النصر:

 

الصبر والصمود: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا).

 

الذكر: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً).

 

الطاعة: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ).

 

التفاهم والانسجام: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

 

وفي هذه الآية الكريمة (الذّكر) من أهم عوامل النصر، وفي مقدمتها، فإن ذكر الله في ساحة المعركة يشدّ ضعف العبد بقوة الله، وعجزه بسلطان الله تعالى، ويمنح الإنسان الشعور بالاستعلاء على الأعداء، وعندها يتصاغر الأعداء في عيون المؤمنين، مهما بلغوا في العدد، وتتضاءل قوتهم، مهما أعدوا من أسلحة وآليات؛ لأن القائد والجندي ممن عظُم الخالق في نفسه فصغر ما دونه في عينيه، على حد تعبير أمير المؤمنين (ع)[2].

 

قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[3]. وعن أمير المؤمنين (ع): «إِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ فِي الْحَرْبِ، فَأَقِلُّوا الْكَلَامَ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ»[4].

 

لأن النفس الإنسانية بطبيعتها الضعيفة تكره الموت وتؤْثِر البقاء، وهي في خضمّ المعركة تتوقع الموت في أي لحظة. ولاشيء يسكّن هذه النفس الجزوعة الهلوعة إلاّ ذكر الله، وترغيب النفس لما اختاره الله تعالى لعباده الصالحين من الرحمة والرضوان إذا كان موته قتلاً في سبيل الله.

 

يؤكد الإمام زين العابدين (ع) في دعائه لأهل الثغور على التذكير بنعيم الجنة الذي أعده الله للشهداء: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَوِّحْ مِنْهَا لِأَبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالْأَنْهَارِ‌ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ حَتَّى لَا يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْإِدْبَارِ، وَلَا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارٍ»[5].

 

ولذكر الله أهمية كبيرة في حياتنا العملية في الأسواق ودوائر العمل. عن أمير المؤمنين (ع) «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا دَخَلْتُمُ الْأَسْوَاقَ، وَعِنْدَ اشْتِغَالِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ كَفَّارَةٌ لِلذُّنُوبِ، وَزِيَادَةٌ فِي الْحَسَنَاتِ، وَلَا تُكْتَبُوا فِي الْغَافِلِين»[6].

 

وبالتقوى يحصّن الإنسان نفسه من خطر الأهواء النفسية، ومن الخيانة والغش. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[7].

 

هذا الطائف الشيطاني يغشي الأبصار حينما يسير الإنسان في طريق الحياة الواسع المزدحم، ومن هنا يحتاج إلى ضوء يكشف له معالم الطريق لكي يسير مطمئناً لا تميل به رياح الإغراء إلى اليمين والشمال.

 

هذا الضوء هو الشعور بالتقوى الذي يخرجه من الأزمات حينما يصل في تفكيره الإنساني المحدود إلى طريق مسدود. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ)[8].

 

إنها سنة إلهية ثابتة تؤدي إلى خروج الإنسان من مضائق الحياة، ومن ضنك العيش، ولكنها مشروطة بالتقوى، وللتقوى معطيات عظيمة يعددها أمير المؤمنين (ع) في خطبته؛ حيث يقول: «فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا»[9].

 

إنها السعادة الحقيقية التي يقول عنها الإمام الحسين (ع) في دعائه: «وَأَسْعِدْنِي بِتَقْوَاكَ، وَلَا تُشْقِنِي بِمَعْصِيَتِكَ»[10].

 

فإذًا؛ بالتقوى وحدها يتحصن القائد والداعية إلى الله، ويستطيع الصمود بوجه الإغراءات والعروض التي تجرف الكثيرين.

 

أرسل أحدهم بصُرَّة أموال إلى أبي ذر (ره) على يد عبد له، وقال له: إن قبلها فأنت حر. فأتاه بها فلم يقبلها، فقال: اقبلها يرحمك الله! فإن فيها عتقي، فقال: إن كان فيها عتقك، فان فيها رقي. وأبى أن يقبلها[11].

 

وعن أمير المؤمنين (ع) في وصف المتقي: «قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ، وَلَطُفَ غَلِيظُهُ، وَبَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ»[12].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الأنفال: 45 – 46.

[2] من قوله عليه السلام لهمام أحد أصحابه في خطبة تسمى بـ (خطبة المتقين): «عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ». نهج البلاغة، الخطبة: 184، ص225. (من المحقق)

[3] الرعد: 28.

[4] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 34 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، ج15، ص97، ح5.

[5] الصحيفة السجادية، من دعائه عليه السلام لأهل الثغور، الدعاء 27، ص105 – 106.

[6] الصدوق، الخصال، ج2، ص614.

[7] الأعراف: 201.

[8] الطلاق: 2 – 3.

[9] نهج البلاغة، الخطبة: 189، ص233.

[10] ابن طاوس، إقبال الأعمال، ص342.

[11] محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج4، ص231.

[12] نهج البلاغة، الكلمة: 210، ص255.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد