علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

نظريّة المعرفة عند كارل بوبر (3)

الاستقراء عند كارل  بوبر

 

يعتمد المنهج التجريبي على الاستقراء الذي هو أحد أنماط الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري في تشييد قواعده ونظرياته. ونريد بالاستقراء هو كل استدلال يقفز فيه العالم من فحص وقائع جزئية إلى مبدأ عام يطال الوقائع المشابهه كافة والتي لم يتم فحصها مخبرياً.

 

الاستقراء يمثل حركة صاعدة تبدأ من الخاص الجزئي وتنتهي بالعام الكلي. وتأتي النتيجة المستخلصة بهذا النوع من الاستدلال أكبر من مقدماتها. فمثلاً عندما يريد العالم الطبيعي أن يدرس ظاهرة تمدد الحديد بالحرارة، يقوم بتعريض عدد من قطع الحديد للحرارة فإذا لاحظ أن كل قطع الحديد التي عرضها للحرارة قد تمددت فإن العالم يقوم بتعميم نتائجه لتشمل قطع الحديد كافة، لتصبح القاعدة هو أن كل حديد عند تعرضه للحرارة يتمدد.

 

وهنا نلاحظ أن النتيجة جاءت عامة وشاملة لكل قطع الحديد والتي لم تجر التجارب المخبرية عليها وأنها - أي النتيجة - غير مستنبطة في المقدمات، لأنه لا يوجد في العدد المحدود من الحديد الذي يمثل مقدمات الدليل هذا المعنى الشمولي الذي جاءت به النتيجة. وبالتالي تكون النتيجة دائماً في هذا النمط من الاستدلال أكبر من مقدماتها لأنها اكتسبت صفة العموم والإطلاق.

 

ومن المهم أن نوضح أن الدليل الاستقرائي لا يمكن تبرير نتائجه على أساس عدم التناقض، فإذا جاءت النتيجة كاذبة والمقدمات صادقة فإن ذلك لا يستبطن تناقضاً منطقياً لأن النتيجة غير محتواة في المقدمات. هذه هي االثغرة المنطقية في الدليل الاستقرائي المعتمد في العلوم الطبيعية. ولقد انتهى بوبر بعد مناقشة طويلة ومدهشة سوف نتعرض لها في هذه الورقة الى نفي الاستقراء في العلوم الطبيعية.

 

يختلف كارل بوبر مع المشكلة الاستقرائية في صورتها التقليدية والتي ترتكز على أن المستقبل شبيه الماضي. بهذه الطريقة يتحول الاستقراء إلى قياس يكون صغراه الحوادث التي تم اختبارها وكبراه مستمدة من هذه الكلية التي ترى المستقبل يشبه الماضي في الحوادث المتماثلة والخاضعة لنفس الظروف. لكن بوبر يختلف مع أصل فكرة التشابة بين الماضي والمستقبل. كما أن بوبر يرى أن العقل البشري لا ينتج القوانين بطريقة استقرائية.

 

الاستقراء عنده ليس منهجًا بل وسيلة للكشف عن كذب نظرية ما. يذكر بوبر في كتابهthe logic of scientific discovery (منطق كشف العلوم) أنه لا يوجد نظرية منجزة كما هي نظرية نيوتن في الجاذبية وربما لن تكون نظرية منجزة مثلها في المستقبل. ومع ذلك فإن نظرية إينشتاين في الجاذبية جعلت من نظرية نيوتن محض فرضية. هذا الأمر دعا كارل بوبر في التفكير ملًّيا والنظر المتأمل في ما يردده هؤلاء الذين يؤمنون بالصيغة التقليدية للاستقراء من أمثلة أضحت تقليدًا عند مناقشة الاستقراء. وهي:

 

الشمس تشرق وتغرب مرة كل أربع وعشرين ساعة.

الكائنات مصيرها الموت.

الخبز يغذي الجسم.

 

هذه الأمثلة التي تدل على أن العقل البشري يمارس منهجية الاستقراء ليستنتج قوانين عامة هي غير صحيحة. فكل هذه القضايا تم تكذيبها. فالأولى كذبت عندما اكتشف أن الشمس تظهر في منتصف الليل في البحر المتجمد. والثانية كذبت عندما اكتشف أن البكتيريا لا تموت لأنها تتوالد بالانقسام. وتكذب الثالثة لأن تناول الخبز تسبب في تسميم قرية فرنسية. (رغم اختلافنا مع كارل بوبر إلا أننا نستعرض أراءه هنا). فكيف تمكن كارل بوبر كما يدعي هو من التوصل لحل المشكلة الاستقرائية في شكلها التقليدي وبهذا كما يذكر في كتابه تمكن من حل عدد من المسائل الفلسفية الأخرى.

 

قارب بوبر المشكلة الاستقرائية من خلال الفيلسوف ديفيد هيوم. ديفيد هيوم كان مهتمًّا بالسؤال المتعلق بالأسباب الكافية التي تبرر معتقداتنا ولذلك أثار مشكلتين ترتبطان بالاستقراء صاغهما بطريقتين. الأولى المشكلة الاستقرائية المنطقية والثانية المشكلة الاستقرائية السيكولوجية.

 

فأما المشكلة الاستقرائية في صورتها المنطقية تتلخص في أنه هل نملك المبررات الكافية التي تجعل الحوادث المتكررة في الماضي متكررة في المستقبل؟ ويجيب عن هذا السؤال بالنفي. هذه الصيغة المنطقية هي ذاتها الصيغة التقليدية للمشكلة الاستقرائية وهنا يتفق كارل بوبر مع ديفيد هيوم في الجواب على هذا الشكل المنطقي للاستقراء. ومقصودهما من هذا النفي هو أنه لا يوجد حل منطقي للاستقراء. ما يعني أن المعرفة التي نحصل عليها عن طريق التكرار والاستقراء هي معرفه غير مبررة منطقيًّا وهي محض اعتقاد مبني على العادة. 

 

أما الصيغة الثانية للاستقراء في صورتها السيكولوجية تتلخص في أنه لماذا يكون لدينا توقعات بثقة عالية في أن المستقبل سيكون شبيه الماضي؟ ويجيب ديفيد هيوم عن هذا السؤال بأنها العادة الذهنية هي المسؤلة عن مثل هذه التوقعات. ديفيد هيوم يرد الترابط بين القضايا والاقتران المطرد بينها ليس إلى الضرورة السببية بل إلى العادة الذهنية. فإذا ارتبطت أ و ب ليس لأن هناك ضرورة سببية تلزم من وجود أ ووجود ب بل لأن الذهن اعتاد أن يرى التعاقب المتكرر بين أ و ب فيستنتج من ذلك السببية بينهما ويستنتج أنه في المستقبل سيتكرر هذا الارتباط. وبهذا يرد ديفيد هيوم المعرفة البشرية الى السيكلوجية البشرية وبالتالي هو ينفي عنها صفتها العقلية. يرى بوبر في هذا الجواب أن ديفيد هيوم تحول من العقلانية الى التشكيك كما أن الفيلسوف برتراند رسل يرى في جواب ديفيد هيوم مثالاً للفلسفة المفلسة في القرن الثامن عشر.

 

كارل بوبر يقارب المشكلة الاستقرائية أولاً بإعادة صياغة المشكلة الاستقرائية المنطقية من خلال ثلاثة صيغ، وثانيًا يضع قانونًا يسميه قانون التحويل الذي يجعل من حل المشكلة المنطقية للاستقراء هو ذاته الحل للمشكلة الاستقرائية في جانبها السيكولوجي.

 

لكن كارل بوبر يعيد صياغة المشكلة الاستقرائية في صورتها المنطقية بعد أن يقوم بتغيير المصطلحات كافة التي تعكس الجانب الذاتي من المعرفة الى مصطلحات تعكس الجانب الموضوعي من المعرفة. فمثلاً بدل كلمة الاعتقاد belief يستخدم كلمة النظرية الكونية المفسرة explanatory theory Universal وبدل كلمة انطباع impression (وهي الكلمة التي استخدمها هيوم في بيان فلسفته في المعرفة) يستخدم كارل بوبر كلمة قضايا مجربة بمعنى تم فحصها واختبارها. فالقضايا المجربة عند بوبر هي جميع الأحداث التي تدخل في نطاق خبرتنا العملية. وأما الأحداث التي لا تدخل في نطاق خبرتنا فيسميها نظريات علمية مفسرة.

 

يضع بوبر المشكلة الاستقرائية المنطقية في شكلها الأول بالسؤال التالي هل أن الإدعاء بأن صحة قضايا مجربة يكون سببًا كافيًا يبرر صدق نظرية كونية مفسرة؟ وجواب بوبر لهذا السؤال هو بالنفي. ومعنى جوابه هذا أنه لو افترضنا أننا قمنا باستقراء عدد من القضايا في المختبر ولو فرضنا الصدق في هذه القضايا فإن ذلك لا يكفي ولا يعني بالضرورة صدق النظريات المفسرة لها غلى نحو الإطلاق.

 

ثم يفترض بوبر أنه لو أجاب عن هذه الصيغة بنعم فإن ذلك يعني أن القوانين المؤسسة على الاستقراء قائمة على الانتظامات في الطبيعة لكن بوبر يرى أن حظوظنا من اكتشاف انتظامات حقيقية في الطبيعة هي ضعيفة وبالتالي فإن نظرياتنا ستكون ولو جزئيًّا خاطئة. وهذا يعني أن الجواب الإيجابي للصيغة الأولى يحمل نقيضة ولذلك لابد أن يكون خطأ. وبالتالي فإن جميع القوانين والنظريات عند بوبر هي محض تخمينات أو فرضيات.

 

ويعيد بوبر صياغة المشكلة المنطقية للاستقراء بتعديل طفيف على الصيغة الأولى فيسأل السؤال التالي: هل أن الإدعاء بصحة أو صدق قضايا مجربة يكون سببًا كافيًا يبرر صدق أو كذب نظرية مفسرة؟ وجواب بوبر على هذه الصيغة بنعم. والمعنى المقصود هو أنه لو قمنا باستقراء عدد من القضايا المجربة فإن كانت هذه القضايا صادقة فإن ذلك يعني أن النظريات المفسرة لها يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة (بمعنى صحيحة أو خاطئة).

 

وهذا الجواب يعطي الاستقراء وسيلة للكشف عن كذب النظريات المفسرة وليس منهجًا تستخدمه العلوم في صنع القوانين والنظريات.

 

ولكن ماذا يحدث لو أننا وقفنا أمام عدد معين من النظريات وكان علينا أن نختار من بينها. في هذه الحالة يقوم بوبر بتعميم المشكلة المنطقية للاستقراء في صيغتها الثانية ويضع المشكلة في صيغتها الثالثة وهي أنه هل نملك التبرير العملي الكافي الذي يجعلنا نختار بعض النظريات على غيرها من حيث الصدق أو الكذب؟ وجوابه على هذه الصيغة أيضًا بنعم.

 

والمعنى أنه إذا كان لدينا عدد من النظريات وكان علينا أن نختار من بينها فإننا حينئذ ننظر الى القضايا المجربة ونرى كيف أن هذه القضايا الداخلة في نطاق خبرتنا تكذب بعض النظريات وبالتالي فإننا نأخذ النظريات التي لم يقم الدليل بعد على تكذيبها.

 

هذا بشكل موجز جواب بوبر على مشكلة الاستقراء.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد