الحدث الحسيني وحتمية التجلي والانتصار
انقسم الفلاسفة حول الحتمية التاريخية أي أن يكون للتاريخ الإنساني مسار يؤدي إلى نتيجة معينة. في مقابل الحتمية التاريخية توجد حتمية التغير وعدم الثبات والتدفق المستمر بحيث يستحيل علينا أن نقول شيئا محدداً عن المصير النهائي للتاريخ. حتمية التغير هي رؤية كونية للشأن الإنساني في فلسفة هرقليطس حيث يغدو المصير الإنساني غير قابل للتحديد. لا شك فإن هذه الرؤية تصيب الإنسانية بقلق بالغ حول مستقبلها، فما كان من أفلاطون الذي آمن بعالم المثل الثابت، أن يضع مصيرَا مشابهَا للإنسانية في عالمها المادي تتخلص فيه من الفساد والانحلال الذي طال شؤون الحياة كافة وذلك عن طريق التعقل الكامل للعلل: الفساد والعمل على وضع برنامج عقلي يزيل آثار الفساد ويحقق للإنسانية حلمها في العدالة والسعادة فكانت مدينته المثالية.
ينظر الفيلسوف الإلماني الكبير هيغل الذي تعدّ فلسفته الأكثر تاثيراً في القرن التاسع عشر إلى مسيرة التاريخ على أنها مسيرة تطور العقل. وأن التاريخ الإنساني هو عبارة عن جدلية ديالكتيكية بين المادة والعقل وسينتصر العقل في التاريخ ويحكم سيطرته على العالم. اعتقد ماركس بمسار حتمي للتاريخ ينتهي بزوال الطبقة الرأسمالية وتحقق الشيوعية في العالم كهدف نهائي لحركة التاريخ.
يرفض كارل بوبر في كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” ما يصطلح عليه بالمداخلة اليوتيوبية أو الهندسة اليوتيوبية. ومقصوده من المداخلة اليوتيوبية في حقل النشاط السياسي أن يكون لدينا هدف سياسي نهائي يتم من خلاله تحديد برنامج عملي للوصول اليه. قد تبدو كما يقول بوبر هذه المداخلة جذابة ومقنعة خصوصًا لهؤلاء الذين تجذبهم الأفكار المسبقة والتي تختزل تجارب البشرية في اتجاه نهائي. يرى بوبر أن المجتمع المغلق هو الذي يحدد بداية ونهاية للتاريخ، وينظر إلى هذا التحديد النهائي للتاريخ وفق برنامج سياسي عملي يتم من خلاله توجيه المسار السياسي نحو هدف نهائي وكبير من أجل تحقيق دولة مثالية، على أنها محاولة يوتيوبية، وستؤدي إلى ديكتاتورية. ويضع بوبر عددًا من القضايا هي بمثابة ركائز في نقد الحتمية التاريخية. فهو يقرر أن مسيرة التاريخ تتأثر بنمو المعرفة البشرية. وبما أننا لا نستطيع التنبؤ بالطريقة التي تنمو بها أفكارنا فإنه كذلك لا يمكننا التنبؤ بمستقبل المسيرة التاريخية. وبالتالي فإنه لا يمكن أن تكون هناك نظرية علمية في تفسير التاريخ على أساس التنبؤ.
إن رفض كارل بوبر لرؤية كونية لمسار التاريخ بناءً على عدم قدرتنا على الإحاطة التامة بمستقبل تطور الفكر البشري الذي هو عامل مؤثر لمسيرة التاريخ لهو كلام دقيق يصدر عن فيلسوف ذي منهجية نقدية عالية ويتمتع باستقلالية، لا يتأثر بالأفكار السائدة وهو جدير بالاحترام. ولكن دعونا نضيف عنصرًا مهمًّا ومؤثرًا في مسيرة التاريخ ويدعم مناقشة بوبر الرافضة للحتميات التاريخية وهو العنصر الأخلاقي. الأخلاق هي الجانب المعنوي في حياة الإنسان وكل عمل تاريخي كما أسلفنا له بعده الأخلاقي. فلو افترضنا أننا استطعنا أن نحيط علماً بتطور المعرفة البشرية فإن ذلك لا يكفي للتنبؤ بمستقبل المسيرة التاريخية، لإننا لا نستطيع أن نتنبأ كذلك بالموقف العملي والفلسفي الأخلاقي العام لمن يباشر الفعل السياسي، وبالتالي فإن هذا يجعل من التفسير العلمي للتاريخ معقدًا جدًّا. فمثلاً بعد أن سادت العقلانية المجتمعات الأوروبية، ظهرت النازية ذات التوجه العنصري وأشعلت فتيل الحرب في أوروبا وقضت على منجزات التنوير والأمل في أن تكون العقلانية العلمية الفلسفية المستقلة عن الدين مصدرًا لسعادة البشرية.
والحقيقة لو كان الموقف العقدي المعتزلي صحيحاً في مسألة استقلال العبد في أفعاله عن الله، حيث تعتقد المعتزلة أو قسم منها أن فعال العباد قد فوضها الله إليها، لكانت رؤية كارل بوبر على درجة عالية من الصحة. لكن النصوص الصريحة في القرآن والروايات الصادرة عن أهل البيت عليهم السلام لا تدع لنا مجالًا للحياد في مسألة حتمية معينة للتاريخ الإنساني.
ينبغي أن ندرك أن مسيرة الإنسان في التاريخ تحيطها العناية الإلهية، فلم يخلق الإنسان ليضيع في متاهات الحياة دون أن يعي الرسالة التي من أجلها خلق وإلا لأصبح الخلق عبثًا وبدون حكمة. ومن هنا ندرك خطأ المعتزلة في معتقدها المتمثل باستقلال الخلق عن الخالق، لأن الله لطيف بعباده ومن مقتضى هذا اللطف يحيطهم بعنايته ويوجههم باتجاه الهدف الذي من أجله قامت السموات والأرض وإلا للزم من ذلك نقض الغرض.
وإذا ما استعرنا بالفلسفة لوصف الغاية النهائية لحركة التاريخ فإنه يمكن القول بأن التاريخ يملك استعدادًا إمكانيًّا للتفتح عن ثمرة نهائية تقطفها الإنسانية بعد مسيرة العذابات والظلامات في مزالق التاريخ الوعرة والتي قذفت بالإنسانية في متاهات التشتت والضياع، تمامًا كما تملك البذرة إمكانًا استعداديًّا لتصبح ثمرة بعد مسار طبيعي خاص وفق شروط موضوعية خاصة. ومن مظاهر العناية الإلهية بهذا العالم هو أولاً أن هذا الكون خلق على النظام الأحسن ”الذي أحسن كل شيء خلقه” وإلا لتنافى ذلك مع كمال الله وعلم الله وحكمة الله. وثانيًا أنه لا توجد استقلالية تامة للقوانين الطبيعية والتاريخية. لأن العلاقة بين الأثر والمؤثر أو السبب والمسبب وإن كانت ضرورية هي علاقة جعلية من الله تعالى وليست ناشئة من نفسها واقتضاء ذاتها. النظام العلي في الكون هو نظام جعلي فترتب السبب على المسبب ليس ترتبًا ذاتيًّا وإنما بجعل من الله. وهذا ما يجعلنا لا نحيد في مسألة حتمية معينة لحركة التاريخ يتجلى فيها الحق وينبلج كالصباح عندما يشرق بنور الشمس.
وبتتبع النصوص القرآنية نجد أن هناك حتمية ينتصر فيها الحق على الباطل، نطلق عليها حتمية الانتصار. ففي القرآن الكريم عدد من الآيات التي تعطي وعدًا من الله للمؤمنين بالانتصار النهائي والاستخلاف. والوعد الإلهي قضاء مبرم وليس فيه تغيير، يقول الله عز وجل في كتابه العزيز واصفاً وعده بالتحقق ”وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ…” (الأنبياء: 104) وقوله عز من قائل ”إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا” (مريم: 61) لنستعرض بعضًا من هذه الآيات التي تشير إلى حتمية الانتصار.
يقول الله تعالى ”وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ” (الصافات: 171-172) ويقول أيضاً ”وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (النور: 55)
وهناك غاية أخرى لحركة التاريخ يستعرضها القرآن في جملة من آياته، نطلق عليها حتمية التجلي حيث تتجلى صفات الله لمخلوقاته فيدركون عظمته، وكمال قدرته وعلمه. يقول الله عز وجل ”اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا” (الطلاق: 12) ويقول أيضًا ”سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت: 53)
ولا شك أن الحدث الحسيني بما يمتلكه من مفاعيل روحية هائلة ويختزن إمكانات التحقق عبر توجيه بوصلة الحركة التاريخية نحو حتمية الانتصار والتجلي. وكما أشرنا بأن مسيرة التاريخ ترعاها العناية الإلهية ولا يمكن أن نلتزم برؤية تفسيرية للتاريخ تستبعد الدور الإلهي في الانتصار للحق وتجلي صفات الله للخلق، إذ هو الهدف الحقيقي من الخلق أن يتعرف الخلق عليه. الحتمية التاريخية بدون أن تتضمن العنصر الرباني ستؤدي إلى شمولية تحطم الإنسان كما برهنت على ذلك تجربة الإنسان في التاريخ. أما إذا أضفنا البعد الرباني فإن ذلك يمنح الإنسان الثقة والأمل بانتصار الحق وتجليه.
السيد عادل العلوي
د. سيد جاسم العلوي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ شفيق جرادي
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
حيدر حب الله
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبدالله طاهر المعيبد
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
طريق حسيني
فضيلة المشي في زيارة الإمام الحسين (ع)
يَغُضّوا من أبصارِهم
الحدث الحسيني وإمكانات التحقق التاريخي (3)
مقتل الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام
ثلاثة إصدارات جديدة للدكتور علي الدرورة
دلالات وآثار زيارة الأربعين
معنى قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾
مقتل الامام الحسين (ع) عند ابن كثير الدمشقي
أثر العبادة في السلوك الاجتماعيّ