علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

المشكلة الاستقرائية ليس لها حل قياسي في فكر الشهيد محمد باقر الصدر (1)

من الثابت لدى جميع من يتبنى بالكامل نظرية السيد الشهيد في الاستقراء ومذهبها الذاتي أو الذين لا يستطيعون أن يذهبوا معها إلى أقصى ما تصل إليه، أعني بذلك نقل القيمة الاحتمالية العالية للاستقراء إلى يقين وهو ما عبر عنه بالجانب الذاتي من المعرفة، والذي معظم علومنا تتشكل على أساسه، أن الاستقراء ليس له حل قياسي، استنباطي.

 

إن أرسطو أراد للتجربة أن تصل إلى اليقين اعتماداً على تحويل الاستقراء إلى قياس يستمد كبراه مما افترضه المنطق الأرسطي مسلّمة عقلية أولية تنفي أن يكون الاتفاق أكثرياً أو دائمياً وتستمد صغراه من التجارب التي تتحرك، مع تكرارها، في الاتجاه الذي ينفي الصدفة النسبية ويؤكد أو يكشف في نفس الوقت عن سببية إحدى الظواهر للأخرى. لكن السيد الشهيد قد تنبه إلى أن ما يفترضه المنطق الأرسطي مسلّمة عقلية يرتكز عليها في تشكيل كبرى القياس الخفي المبطن في الاستقراء هو في حقيقته ليس مبدأ عقلياً قبلياً. إن القليل من التدقيق في هذه الفرضية، وكما أشار السيد الشهيد في كتابه الأسس، يتضح لنا أن هذه المسلّمة ليست كذلك. ذلك لأن المبدأ الأرسطي لا ينفي تكرار الصدفة على مستوى الوقوع أي أن الواقع العملي ومن خلال الممارسة وبالاستقراء نفسه يمكن لنا أن نتأكد من هذه الحقيقة – عدم تكرار الصدفة في الواقع. لكن أراد بهذا المبدأ نفي إمكان تكرار الصدفة وإثبات استحالة تكرارها.

 

وعندما نقارن بين درجة القوة والإيمان بهذه المسلمة ”الاتفاق لا يكون دائمياً أو أكثرياً” وبين درجة القوة والإيمان بالمسلّمة العقلية التي تنفي – اجتماع النقيضين – مثلاً نرى أن العقل النظري والعملي للإنسان مجهز بحيث يقبل بهذه الحقيقة دون أدنى شك. ولكن عندما نتأمل في المسلّمة الأرسطية لا نستطيع أن نلمس ذلك الزخم أو الحضور في النفس التي تجعلها في نفس الدرجة والمساواة مع المسلّمة التي تنفي – اجتماع النقيضين. إن المسلّمة الأرسطية تفتقد ذاتياً لعنصر الضرورة في نظام الكون كما هو الحال في مسلّمة نفي اجتماع النقيضين التي هي ضرورة في نظام الكون وحركة الفكر. إننا يمكن أن نتصور عالماً تقترن فيه الظواهر بالصدف النسبية ولكننا لا يمكن أن نتصور عالماً تتعايش فيه الأشياء مع نقائضها في المكان والزمان نفسه.

 

يتبين أن المبدأ الأرسطي يقوم على أساس نفي غير محدد العدد والنوع والزمان. فنحن لا نستطيع أن نحدد طبيعة هذه الصدفة وأين يمكن أن تحدث وعدد المرات التي يمكن أن تتكرر فيها. وتقوم الاعتراضات الموجهة لهذا المبدأ على هذا النفي غير المحدد الهوية والعدد والزمان في إبطال كون المبدأ الأرسطي علماً إجماليا قبلياً قائماً على أساس التضاد والتمانع أو على أساس الاشتباه....

 

وسوف نقوم بتسجيل اعتراضات السيد الشهيد عندما نفصل في المعنى المقصود من العلم الإجمالي القائم على أساس التضاد والتمانع أو على أساس الاشتباه.

 

قد ينشأ العلم الإجمالي من إدراكنا أن بين الأشياء تضادًا وتمانعًا فلا يمكن لها أن توجد جميعاً. فعند رمي قطعة نقد نعلم مسبقاً إما وجه الكتابة سيظهر أو وجه الصورة وعلمنا هنا مردد بين الوجهين ولإدراكنا التمانع بين الوجهين نعلم أنه لا يمكن لهما أن يظهرا جميعاً. هذا العلم الإجمالي يتحول إلى علم تفصيلي محدد إذا أتيح لنا أن نطلع على الوجه الذي سقطت عليه قطعة النقد. عندئذ يمكن لنا أن نعلم بشكل مفصل ومحدد – غير مردد – أو أن ننفي بصورة محددة الوجه الذي لم يظهر.

 

ولنا هنا أن نتسائل هل يوجد بين الصدف المتماثلة تمانع ذاتي لا يجعلها تتكرر في تجربة؟ فلو افترضنا أن (أ) هي سبب (ب) وأن (ت) ترمز إلى أي شيء ليس له علاقة سببية في وجود (ب) غير أنه يظهر في التجربة كصدفة نسبية. إن المبدأ الأرسطي يقرر مسبقاً أن (ت) لن تقترن بـ (ب) باستمرار على خط طويل. وإذا افترضنا أن هذا الخط الطويل الذي لم يحدده أرسطو يعبر عن عشر تجارب متتالية فإن (ت) لن تقترن بـ (ب) على الأقل في تجربة واحدة من هذه التجارب العشرة بينما ستظهر (أ) في كل التجارب العشرة، الأمر الذي يجعلنا نتأكد من سببية (أ) لـ (ب).

 

لكننا ندرك أن عدم ظهور (ت) في التجارب العشرة لا يرجع إلى وجود تمانع ذاتي بين جميع التاءات. فإذا لم تكن على سبيل المثال علاقة بين شرب اللبن وظهور الصداع واخترنا عشوائياً عشر أشخاص وأعطيناهم لبناً فإن ظهور الصداع لن يحدث في واحد من الأشخاص العشرة. لكننا ندرك أن من الممكن للصداع أن يظهر فيهم جميعاً لعدم وجود تمانع الذاتي في تكرار ظهور الصداع. فالمبدأ الارسطي إذن ليس علماً إجمالياً يقوم على أساس التمانع أو التضاد. (الاعتراض الثاني)

 

وإذا افترضنا أن الصداع قد ظهر بشكل متتابع في تسعة أشخاص من بين العشرة الذين اخترناهم بشكل عشوائي، فهل سيعجز المجرب عن الاختيار العشوائي للشخص العاشر بحيث لا يظهر فيه الصداع حتى لا تتكرر الصدفة عشر مرات متتالية؟

 

إذاً يتبين أن فرضية التضاد أو التمانع إذا طبقناها على الاقتران الذاتي الذي هو الاختيار العشوائي للمجرب وظهور (ت) (ظهور الصداع كما في المثال) فسنجد أنها لا تنطبق. وكذلك عندما نقوم بالاختيار الواعي للأشخاص الذين تتوفر فيهم ظهور الصداع ونعطيهم لبناً فسنحصل حينئذ على أي عدد من الاقترانات الموضوعية بين شرب اللبن وظهور الصداع دون أن يكون بينها أي تضاد أو تمانع يحول دون حدوثها. (الاعتراض الأول)

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد