علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

الكمال (2)

الحركة الاستكماليّة وعواملها وشرائطها

إنّ التكامل والحركة الاستكماليّة لموجود ما عبارةٌ عن التغييرات التدريجيّة التي تحصل فيه، والتي تُنتج أن يصل استعداده للوصول إلى صفة وجوديّة، هي «الكمال» إلى المرحلة الفعليّة. هذه التغييرات تحصل بواسطة القوى المودعة في خلقة الموجود القابل للكمال، مع الاستفادة من الشرائط والإمكانات الخارجيّة.

فبذرة الحنطة عندما تستقرّ تحت التراب، ويتوفر لها الماء والهواء والحرارة والنور والشرائط الأخرى، تنفلق، ثمّ تبرز ساقًا وأوراقًا وسنابلَ، ممّا ينتج حصول 700 بذرة أخرى تقريبًا. هذه التغييرات التي تحدث منذ البدء في بذرة الحنطة، إلى حصول البذرات الـ700، تُسمَّى اصطلاحًا «الحركات الاستكماليّة»، كما تُسمّى القوى التي كانت كامنةً في البذرة، والتي استطاعت بواسطتها جذب الموادّ اللازمة، ونفي الموادّ المضرّة وتحوّل العناصر المجتذبة عبر تفاعلات خاصّة إلى بذرات مشابهة لها، تُسمّى «عوامل التكامل»، في حين يُسمّى الماء والهواء واللّوازم الخارجيّة الأخرى «شرائط التكامل».

من البديهيّ، فإنّ معرفة ميزان التكامل، وعبارة أخرى سعة الدائرة الوجوديّة وحوزة كمالات موجود ما، وكذلك عوامل وشروط التكامل، يمكن أن يحصل عادة عبر التجربة، وإن لم يكن من الممكن نفي وجود سبيل آخر لمثل هذه المعرفة.

 

هنا، تُثار بعض الأسئلة في البين:

هل الموجودات كلّها تقبل التغيير والتطوّر، أو إنّه يمكن أن توجد بعض الموجودات التي نعرفها أو تلك التي يُحتمَل وجودها، ونحن لا نعرفها، وهي لا تقبل التطوّر والتحوّل مطلقًا، فلا يحدث فيها ذلك أبدًا؟ وهل إنّ أيّ تغيير سواء أكان في الذات أم في العوارض والصفات، أم في النسب والإضافات، هو تغيير حقيقيّ وواقعيّ، أو إنّه لا يمكن اعتبار التغيير في النسب والإضافات تغييرًا حقيقيًّا؟ وهل إنّ أيّ تغيير حقيقيّ يوجب الوصول إلى صفة كماليّة، أو يمكن أن تنتج حركة ما لفقدان بعض الصفات الوجوديّة؟

هذه الأسئلة كلّها تُطرَح في محلّها، ولكن لـمّا كان بحثنا لا يتوقّف على الإجابة عنها، فإنّنا نتركها إلى مجالٍ آخر.

 

الحركة العلميّة وغير العلميّة

في مثال بذرة الحنطة، نجد أنّ التغييرات الموجِبة لتحوّل البذرة إلى بذرات مشابهة ليست مرهونةً بالإدراك والتشخيص العلميّ، وكذلك التغييرات التي تحدث في البيضة، إلى أن تنتهيَ لحصول الفرخ مع فرقٍ بين هذه الحركة والحركة الاستمكاليّة للفرخ، حتى أصبح دجاجة كاملة. فإنّ هذه الحركة الأخيرة تتبع الإدراكات التي لو فقدها الفرخ لم يستطع أن يصل إلى كماله اللّائق به. فلو لم يكن الفرخ يحسّ بالجوع والعطش والبرد والحرّ، ويميّز بين الحبّة والحجر والخشب، والماء والنار، فإنّه ليس فقط لا يمكنه أن يتطوّر وينمو، بل إنّه لا يستطيع أن يديم حياته. ومن هنا نستنتج أنّ الحركات الاستكماليّة يمكن تقسيمها إلى نوعين كلييّن: إدراكيّة وطبيعيّة، أو علميّة وغير علميّة.

 

الإدراك الغريزيّ وغير الغريزيّ

إنّ الإدراك الذي هو شرطٌ للحركة الاستكماليّة قد يكون أحيانًا فطريًّا طبيعيًّا، وإن كان الموجود نفسه لا يدرك وجوده بكلّ وضوح، وذلك مثل الإدراكات الغريزيّة الحيوانيّة، وقد يحصل تدريجيًّا وبالتعلّم، فيكون مورد الاطّلاع الكامل، كما في العلوم الاكتسابيّة لدى الإنسان.

هنا تُطرح بعض الأسئلة التي تجب الإجابة عنها في مجال آخر، من قبيل أنّه هل تفقد النباتات أنماط الإدراك كلّها، أو يمكن أن يوجد في بعضها نوع منها؟ وهل إنّ الإدراكات الحيوانيّة كلّها غريزيّة، أو بعضًا منها يمتلك نصيبًا من الإدراكات الكسبيّة؟ وعلى فرض وجود الإدراك الاكتسابيّ في الحيوان، فهل يوجد بينه وبين الإدراكات الإنسانيّة تفاوتٌ ذاتيّ أم لا؟ الحركة الاختياريّة وغير الاختياريّة

قد تحصل الحركة التكامليّة بشكل طبيعيّ لاإراديّ عند اجتماع الشرائط اللازمة لدى الموجود الذي يمتلك قوةً كافيةً لتكامل خاصّ. وقد يتوقف حصولها على إعمال الإرادة والاختيار، وهذا ما نلاحظه بوضوح في نشاطاتنا الاختياريّة، ونميّز بينها وبين الأفعال الطبيعيّة واللاإراديّة الأخرى بكل وضوح أيضًا.

من البديهي أنّ مدى التكامل والتقدّم في الحركات الاختياريّة مرتبطٌ بإرادة الموجود المتحرّك واختياره. بعبارة أُخرى، إنّ عدم الوصول إلى الكمال المطلوب ليس معلولًا فقط لنقص الطاقات الذاتيّة أو عدم مساعدة الشرائط والإمكانات الخارجيّة، بل قد يستند إلى إرادة الشخص نفسه، ولأنّ الانتخاب لا يحصل بلا علم ووعي، فإنّ حسن الانتخاب مرتبطٌ بالعلم والتشخيص الصحيح، وكلّما كانت دائرة المعلومات أوسعَ وإمكانات كسب العلوم اليقينيّة أكبرَ، فإنّ إمكانات الاستفادة الصحيحة منها للتكاملات الاختياريّة ستكون أكثر وأوفر،كما أنّه كلما كان ميدان التحرّك أوسع والشرائط الخارجيّة أكثر تنوّعًا، فإنّ الأعمال الاختياريّة يمكن تأديتها بحرّية أكبر.

ومن هنا، يحصل لنا دليلٌ واضح على لزوم معرفة الهدف، ومعرفة السير الصحيح نحوه؛ لأنّه -كما أشرنا- يتوقّف الاختيار على العلم والوعي، والتكامل الإنسانيّ أو على الأقلّ قسطٌ من هذا التكامل هو اختياريّ بلا ريب. 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد