مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

حول قتل الشغف في أبنائنا

من الطبيعي أن يتمنّى الآباء والأمهات أفضل مستقبلٍ لأبنائهم. ومن الطبيعي أن يحثّوهم ويدفعوهم بالاتجاه الذي يحقق لهم ذلك. لكن هل يمكن أن يكون لهذا الأسلوب التربوي عواقبُ وخيمة وآثارٌ هدامة على صعيد تكوين الشخصية؟

 

هناك ثغرةٌ ما، قلّما يتم الالتفات إليها في عملية التواصل بين الآباء والأبناء. يتصور الآباء أنّ أبناءهم مُدركون جيدًا لطبيعة اهتمامهم بهم، في الوقت الذي يرى الأبناء ذلك تدخُّلًا لا يخلو من ظلم. الآباء مصرّون على التعامل بالنوايا، والأبناء لا يرون سوى الأقوال والأفعال. الآباء يعتقدون بأنّ نواياهم الطيبة النابعة من الأمومة والأبوّة كافيةٌ ليتجاوب أبناؤهم مع كل ما يطلبونه منهم، في حين أنّ ما يهمّ الأبناء ويشغل تفكيرهم هو القول وأثره.

 

ما الذي يقصده كلّ أب أو أم حين يحثّون أبناءهم على دراسة الطب سوى تأمين العيش الكريم والسمعة الحسنة والاستقرار المادي؟ بالتأكيد لا شيء آخر. لكن ما الذي قد يفهمه الأبناء من وراء هذا الإصرار: الضغط والكبت وسلب الإرادة و..

 

هذه الثغرة أو المعاني والدلالات الضائعة وسط صخب الحوارات المتبادلة هي كل ما يهمّ. إن لم يدرك الأبناء عمق النوايا التي تدفع آباءهم لمثل هذا المطالبات، فمن المتوقَّع أن تتشكّل في نفوسهم مشاعر وتوجُّهات وحالات سلبية للغاية. وسواء أطاعوا أم لا، فالنتيجة ستكون غير محمودة.

 

العديد من الأبناء قد ينقادون لمطالب الآباء، لكن لا أحد يلتفت إلى أنّهم قد خسروا شيئًا مهمًّا في حياتهم وفي تكوينهم النفسي؛ إنّه ذلك الشغف الذي يُفترض أن يكون المحرّك الأساسي في الدراسة والتعلُّم والعمل، والذي لا يمثّل سر السعادة فحسب، بل سر الإبداع والنشاط والإنتاج.

 

الانقياد الذي يحصل نتيجة الضغط والرضوخ ولا يكون نابعًا من الإيمان بالشيء الذي نقوم به، من الصعب أن يكون مساعدًا على تحقيق تلك المعاني الجوهرية التي تقف وراء وجودنا في هذا العالم. وفي حالاتٍ عديدة يمكن أن يؤدي إلى الفشل والإخفاق وبعض الأزمات النفسية الحادة.

 

جانبٌ مهم من التفوُّق والتقدُّم العلمي مرهونٌ بوجود الشغف والحماس والإيمان العميق بما نقوم به. بإصرارنا وضغطنا على أبنائنا ليقوموا بما نعتبره مصلحة لهم، سنكون ممّن يعمل على قتل الشغف فيهم؛ والسبب الأول وراء ذلك هو أنّنا نطلب ونُصرّ ونحن نعتقد بأنّ أبناءنا سيتفهمون ذلك عاجلًا أو آجلًا.

 

إن قلنا بأنّ أحد أهم أسباب إخفاق التربية يرجع إلى عدم إدراك الأبناء لطبيعة العواطف الأبوية وماهيتها ودرجتها، فلا نكون مبالغين أبدًا. إنّ بناء وتشكيل هذا الإدراك والوعي العميق في نفوس أبنائنا يتطلّب حنكةً ودرايةً عالية في التربية. إيصال هذه المشاعر النابعة من النوايا السامية ليس بالأمر السهل أبدًا. كل إنسان وبحكم تكوينه العاطفي يمكن أن يخضع بقوة للنوايا الطيبة فيما إذا أدركها. حين نعلم بأنّ دافع هذا الإنسان وراء حرماننا أو منعنا من شيءٍ ما هو تحقيق مصلحتنا المؤكّدة، ينقلب السخط إلى رضا والكره إلى حب بلحظةٍ واحدة. وفي المقابل، إن عرفنا بأنّ الدافع وراء إعطائنا وإكرامنا هو أمر خبيث أو شر، فسوف ينقلب رضانا وحبنا إلى سخط بلحظةٍ واحدة.

 

لهذا، يجب على الآباء أن يرسّخوا دوافعهم في عقول أبنائهم أولًا، ويعملوا بقوة وذكاء على إيصال حقيقة نواياهم الجميلة إلى عمق قلوب أبنائهم؛ وهذا ما لا يتم من خلال الضغط والإكراه والفرض والإصرار.

 

فلكي يدرك الأبناء مثل هذه المشاعر الأبوية العميقة، فإنّهم يحتاجون إلى فهمٍ تامّ ووعيٍ عميق لتلك العلاقة والرابطة بين المطلوب منهم من جهة، والمصلحة الناجمة عنه من جهة ثانية. هكذا خلقنا الله تعالى، نحلّل ونقيس ونقارن ونسعى لإدراك العلاقات بين الأشياء قبل أي شيء آخر. وحين تكون المسألة معقّدة نوعًا ما ـ مثل قضية الدراسة والتخصُّص والمهنة ـ فليس من السهل أن يدرك الأطفال والشباب الصغار العلاقة بين نتائجها ومقدّماتها.

 

الآباء يريدون الحياة الطيبة لأبنائهم من خلال هذا التخصُّص الجامعي الذي يتطلَّب بذل جهد وافر في الدراسة، في حين أنّ الأبناء قد لا يرون العلاقة بين الأمرين في هذه المرحلة العمرية. فهم لم يجربوا بعد، ولا يمكنهم الشعور بالنتيجة قبل حصولها، كما إنّ لديهم الكثير من الخيارات في أذهانهم والتي تتوافق مع تلك النتيجة المرجوّة بالتحديد. هنا تصبح مطالب الآباء غير منطقية بالنسبة للأبناء؛ ومع الضغط المستمر تتحول إلى شيء يقابل المنطق تمامًا. فكيف لهم أن يصدّقوا بأنّ في هذا الاختصاص الجامعي سعادةً ولذةً وسرورًا وهم يعيشون شقاء الدراسة ومرارة المثابرة وتعاسة الاستمرار على هذا الطريق الشاق، ويشاهدون ذلك بأم العين.     

 

الرسائل التي يرسلها الآباء للأبناء تصل متضاربةً ومتضادة بين ظاهرها ومعانيها، وهذا ما يقطع الطريق على إدراك النوايا الجميلة التي هم بأمس الحاجة إليها حتى يستمعوا وينصتوا.

 

لذلك وبدل الإصرار والضغط، يجب علينا كآباء أن نعتني كثيرًا بهذا المنطق ونحترمه ونقدّره، ونبذل كل جهدنا لإثبات ما نعتقد بأنّه صواب ولازم بصورة استدلالية عقلانية سليمة. وبالتأكيد، إنّ من يسعى لاستخدام هذا المنطق سرعان ما سيكتشف أن الكثير مما يطالب به لم يكن منطقيًّا البتة، وإنّما كان نابعًا من قناعات وتصوُّرات عفا عليها الزمن، ولم يعد لها من حقيقة في زمن الأبناء وما سيليه. فعلى سبيل المثال إن كان للطب والطبيب تلك المنزلة والأهمية والنتيجة والأثر قبل ثلاثين أو أربعين سنة فربما هي اليوم على غير ما كانت عليه. وما زال الكثير من الآباء يحملون في أذهانهم صورة ذلك الطبيب الذي جمع ثروة طائلة وبنى مشفى قريبًا من قصره، مثلما يحمل البعض تلك الصورة البراقة عن لاعب كرة القدم الذي يحصل على راتب قدره عشرين مليون دولار سنويًا ويسقطونها على كل لاعب كرة قدم في العالم (في الوقت الذي لا يصل معدل أجر هؤلاء إلى بضعة آلاف في السنة).

 

إن ما نحتاج إليه في التربية قبل أي شيء آخر هو احترام المنطق العقلاني وترسيخه. وهذا ما لا يحصل إلا إذا شجّعنا أبناءنا على استخدامه بفعالية تامة. وهل هناك قضية أهم من قضية مهنة المستقبل والدور الاجتماعي لكي يتفكر الإنسان فيها، فتنمو بفضل ذلك قدراته التحليلية بصورة ملحوظة؟

 

وبدل إصرارنا على تحديد النتيجة والتفكير نيابة عن أبنائنا بمستقبلهم ومصلحتهم، علينا أن نوفر لهم كل ما يمكن أن يعينهم على التحليل الصحيح لمثل هذه القضية؛ وذلك عبر فهم العلاقة الوطيدة بين العلم والتعلم وثماره ونتائجه العظيمة؛ وكذلك عبر تقديم الرؤية الكونية الصحيحة التي تمكنهم من اكتشاف الدور المطلوب لكل إنسان في تحقيق الغايات المنشودة.

 

بهذه الطريقة سيتمكن أبناؤنا من الوصول بسرعة إلى إدراك أجمل المشاعر وأنبلها، بالإضافة إلى إدراك مصلحتهم العليا، فلا يجدون بعد ذلك أي صعوبة في تقبل النصيحة والاسترشاد بالحكمة التي لا تكون إلا من نصيب المخلصين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد