مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد علي التسخيري
عن الكاتب :
ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1944م، هو أحد من الشخصيات التقريبية البارزة على مستوى العالم الإسلامي، درس عند مجموعة من كبار علماء الحوزة، منهم: السيد محمد باقر الصدر والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد تقي الحكيم والميرزا جواد التبريزي والسيد محمد رضا الكلبايكاني والشيخ وحيد الخراساني والشيخ ميرزا هاشم الآملي والشيخ محمد رضا المظفر.rnكان عضواً في مجلس خبراء القيادة في إيران، وأميناً عاماً للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وأميناً عاماً لمجمع أهل البيت العالمي، من مؤلفاته: الاقتصاد الإسلامي، المختصر المفيد في تفسير القرآن المجيد، توفي في 18 آب/أغسطس 2020 في طهران، ودُفن في حرم السيدة معصومة في مدينة قم.rn

الأخلاقية: روح النظام الإسلامي وإطاره العام (2)

 (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح. إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون). (التوبة: 120 ـ 121)

 

وقد كانت الآيات الشريفة دقيقة غاية الدقة عندما ضربت على وتر إشباع الذات إشباعاً خالداً في قوله تعالى: (... وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون). (الزخرف: 71) (... ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدعون). (فصلت: 31) (... لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون). (الأنبياء: 102) وهكذا يتحول العمل الصالح لصالح المجتمع ولصالح النفس في الوقت نفسه.

 

(... وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله...). (البقرة: 110) (... وما تنفقوا من خير فلأنفسكم...). (البقرة: 272) ويكون المتاع الدنيوي المنحرف ظلماً وبغياً على النفس: (... يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة الدنيا...). (يونس: 23) وهكذا (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها...). (الإسراء: 7) (... وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). (البقرة: 57)

 

(ولا يحسبنّ الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين). (آل عمران: 178) (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم...). (الأعراف: 9) (... وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم، والله يعلم إنهم لكاذبون). (التوبة: 41) فالنفس والإنسانية تباع في الدين لله وللرسول وللأئمة وللمؤمنين ليعوض عنها بالجنة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة...). (التوبة: 111) (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم...). (الأحزاب: 6) وخاطب الرسول (ص) المؤمنين قائلاً: "ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، فقال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه". (حديث الغدير).

 

قد جاء في (نهج البلاغة) قول أمير المؤمنين (ع): "إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها". (الكلمات القصار: 456) وما أكثر الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى، وكلّها تنتج هذا الحل الوحيد للمشكلة الاجتماعية المستعصية. فلا يبقى ـ والحال هذه ـ إلا طريق الإسلام المتوازن تماماً فحسب.

 

وهكذا رأينا: أن غريزة حب الذات غريزة طبيعية تنمو بشكل طبيعي ولا تحتاج إلى تربية، وإنما تحتاج إلى تهذيب وتوجيه، وتحديد مصاديق الذات ومداها، وتنبيه على سبيل إشباع اللذائذ الإنسانية، وإن كان شعور النفس ببعض اللذائذ المعنوية يحتاج إلى تربية علمية صحيحة ليكون إشباعها إشباعاً لهذه الغريزة في الوقت نفسه.

 

وعندما نرد النظم الإسلامية الأخرى نجد الجانب الأخلاقي متجلياً فيها بمستوى أساس:

 

فالنظام الاقتصادي الإسلامي يجسد الصفتين الآنفتين: (الأخلاقية والواقعية) تمام التجسيد في غاياته وفي وسائله.

 

إنه لا يضمن العامل لأنه أداة إنتاج إذا أصيبت أصيب الإنتاج نفسه، وإنما يضمنه لأنه إنسان قدر أن يعمل أم لا. وإنه عندما يريد تقسيم الربح لا يجعل الإنسان إلى جانب الحجر وإنما يعتبر أدوات الإنتاج خادمة للإنسان. وإنه عندما يضع خطته التنظيمية يجعل (العدالة الاجتماعية) أحد أكبر الأهداف الاقتصادية للفرد والدولة ويعمل على تحقيق التوازن في مستوى المعيشة بين الأفراد، دونما توجيه أية ضربة للدوافع الذاتية، لتؤدي دورها الاقتصادي المطلوب.

 

والنظام الحقوقي في الإسلام يسعى ليستلهم الحقوق الفطرية الإنسانية ويعكسها على الصعيد التشريعي معادلاً بين الحقوق والواجبات ( ... ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف...). (البقرة:228) والنظام الجنائي أيضاً يمتاز بهذه الصفة الأخلاقية التي تميزه تماماً عن باقي النظم الأخرى.

 

إن الإسلام ينظر لكل ما يخالف التكامل الروحي للإنسان باعتباره جريمة يعاقب عليها عقاباً دنيوياً كالحنث باليمين والخيانة، أو يوكل أمر العقاب إلى الآخرة كما في الغيبة والنميمة والحسد والحقد، وعدم رد السلام والتكبر وأمثال ذلك، بالإضافة إلى إمكان تصوير التعزيز الدنيوي على هذه المعاصي.

 

هذا بالإضافة إلى اعتباره الجرائم التي تمسّ المسيرة الاجتماعية الصحيحة جرائم أخلاقية حتى في حالة عدم التضرر الاجتماعي ـ ظاهراً ـ بها كما في مسائل شرب الخمر، والاستمناء وأمثالها.

 

وفي حين تعجز القوانين الوضعية عن علاج هذه الأمراض الأخلاقية لأنها لا تقع تحت سلطتها بل ربما لأنها لا تأبه بها. وكثيراً ما تقع هذه القوانين فريسة الضعف البشري والذوق العام، وهي غالباً ما تخدم الطبقات الحاكمة فتبشر بأخلاقها، وهو ما وجدناه من التدني الأخلاقي في المجتمعات الوضعية القائمة.

 

فإذا عجز القانون عن تركيز الأخلاق فقد عجز عن إزالة أسباب أعظم الجرائم أحياناً، وهذا ما نجده في مثل الكذب والنميمة والحسد. يقول (ألكسيس كارليل) العالم المعروف، في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" (ص 152): "يجب على الإنسان أن يفرض على نفسه قاعدة داخلية بتوازنه العقلي والعضوي... إن الدولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة، ولكن لا تستطيع أن تفرض عليه الأخلاق، فيجب أن يدرك كل فرد ضرورة فعل الخير وتجنب فعل الشر، وأن يرغم نفسه على اتباع هذا المنهج ببذل جهد إرادي".

 

ولا نرانا بعد هذا بحاجة لاستعراض باقي النظم الإسلامية كالنظام الاجتماعي المعتمد على أساس (الوحدة العائلية المتوازنة)، والنظام التعاملي وغيرهما فإن في ما ذكر الكفاية كما نعتقد.

 

من كل ما مر وكذلك من مراجعة مجمل الأسس والمظاهر الأخلاقية في الإسلام نستنتج الظواهر التالية:

 

أولاً: إن الأخلاقية الإسلامية ليست أخلاقية هامشية أو جانبية، وإنما هي أخلاقية تشمل الحياة كلها، والإنسان المسلم المثالي هو الأخلاقي المثالي في كل وجوده وسلوكه.

 

ثانياً: إن الأخلاقية الإسلامية ليس أخلاقية انعزالية عن الحياة والملذات، وإنما هي أخلاقية الانهماك في العمل الاجتماعي بروح زاكية مع امتلاك ملكة (الزهد) والقدرة على التحرر من الأسر المادي الوضيع إذا تطلب الموقف ذلك.

 

ثالثاً: إن معاييرنا الأخلاقية مستمدة من عقيدتنا، وحينئذٍ مهما امتدت العقيدة امتدت هذه المعايير، فلا تتأثر بالأبعاد الجسمية، ولا العرقية، ولا المادية، وما إلى ذلك، وهي بالتالي تصلح لأن تكون معايير إنسانية كاملة.

 

رابعاً: إن الأخلاقية الإسلامية ليست سطحية عارضة، وإنما هي تتعامل مع الفطرة وتستمد منها مسوغاتها وتعمل على تجليتها وإسراء مفعولها إلى ظاهر السلوك.

 

خامساً: إن أخلاقيتنا ليست منافية للتغير المادي والرفاه البدني بل هي متلاحمة معه لصنع أهدافٍ معنوية سامية.

 

سادساً: إن أخلاقيتنا لا تتعامل مع الخيال المفرط وليست طوبائية النظرة، وإنما هي واقعية قائمة على أساس من علم إلهي بالواقع الإنساني والواقع الكوني والعلاقة بينهما، وتقدير دقيق لهدف الخلقة الإنسانية. ولذا فهي تتجنب أي تخدير كاذب وتسعى للرقي المعنوي الحقيقي.

 

سابعاً: إن الأخلاقية الإسلامية لم تطرح أهدافاً ومبادئ عليا تاركة إياها دونما تفصيل لها ولكيفية تحقيقها، وإنما هي إذ تطرح مفهوم العدالة الاجتماعية مثلاً تعطي التخطيط الكامل لها وللأساليب العملية التي يتم تحقيقها بها، وعندما تطرح فكرة تزكية النفس تعطي البرنامج العملي الدقيق الذي يحققها لئلا ينحرف السبيل بالإنسان عن الهدف الأسمى.

 

ثامناً: إن أخلاقيتنا ليست أخلاقية مصلحية، أي ترعى مصالح الذات الضيقة، وإنما هي أخلاقية إنسانية ترمق الهدف كلّه، وتحاول أن تنسق كل أجزاء المسيرة مع هذا الهدف وربما عملت لتحقيق ذلك على تغليب المصالح الاجتماعية على المصالح الذاتية. وبالتالي فهذه الأخلاقية ملكة تطوع خير بناء وليست سعياً وراء مصلحة.

 

تاسعاً: إن أخلاقيتنا أخلاقية متوازنة، فلا هي بالتي تفني الفرد تحت عجلات المصلحة الاجتماعية العليا، ولا هي بالتي تسمح للفرد أن يسحق المصالح الاجتماعية، وإنما هي تحاول إيجاد توفيق، وربما أوجدت تلاحماً بين المصلحتين فلا يحس الفرد العامل لذاته أنه منفصل عن العمل لمجتمعه.

 

عاشراً: وبالتالي فإن الأخلاقية الإسلامية ليست مقطعية تنطفئ عندما تصل إلى حد معين، وإنما هي برنامج تكامل إنساني لا ينقطع لأنه يسير إلى الله تعالى وهو جلّ وعلا الكمال الذي يتسامى فوق كل عروج.

 

هذه هي بعض ملامح الحياة المعنوية في الإسلام نطرحها على أمل أن نوفق لتجليتها في حياتنا الفردية والاجتماعية.

 

خاتمة المطاف

 

وبعد أن يتم كل هذا لنعد إلى واقعنا القائم اليوم.

 

إننا نعلم دونما ريب أن الأخلاقية هي أحد معالم شخصية أمتنا الإسلامية وبدونها لا يمكننا أن ندعي لأنفسنا الحالة الطبيعية الإسلامية. فهل يتوفر هذا البعد في أمتنا اليوم؟

 

إننا نعيش في وضع غريب يتنافى مع ما أراده الإسلام، وإلا فما معنى كل هذا الفجور المعلن؟ ما معنى أن تباع الخمور في أسواق بعض بلداننا علناً وجهاراً؟ وما معنى أن يعصى الله جهاراً على البلاجات وفي الفنادق الكبرى وفي محلات الدعارة وعلى صفحات مجلات الخلاعة وعلى شاشات التلفزة والفيديو وأمثالها ثم لا نجد من يستنكر ذلك؟

 

ما معنى أن تداس قدسية الحجاب الإسلامي فلا تجد لها نكيرًا؟

 

ما معنى أن تداس حرية الشعوب وتهان كرامتها فلا يلبي صرختها ملبّ؟

 

ما معنى أن تسلب من أمتنا أعظم الفرص العبادية التي يمكن أن تبني فيها وجودها ولا من معترض.

 

أنىّ يمكننا تحمل الوضع الاقتصادي الربوي المتفسخ علناً؟

 

كيف تسمح أمتنا بشيوع الأفكار الإلحادية والعلمانية والماسونية؟

 

إنها أسئلة من آلاف التساؤلات التي تطرح فتشدد علينا المسؤولية، وتعرفنا عظم الخطر، وسعة التآمر على وجودنا، لسلبنا معالم شخصيتنا. فماذا أعد العلماء لمثل هذه الحالة؟!

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد