مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

لكي يزدهر الفكر في المجتمع ما هو العامل الأكبر؟

لكي يزدهر الفكر يجب أن يتنفس.

 

ازدهار الفكر في أي مجتمع يعني الارتقاء بالأفكار السائدة حول الوجود والحياة والمصير والقضايا الكبرى. وكلما ارتقى الفكر البشري يُفترض أن يقترب من الحقيقة؛ فالباطل بطبيعته يتميز بالسخافة والسطحية، وهو زاهق بحد ذاته وأشبه بالفقاع الذي يذهب جفاءً عند أي لمسة حق.

 

ازدهار الفكر بين الناس يعني أنّه أصبح كالبضاعة الرائجة التي يُقبل عليها الجميع بشغف. وحين يتبادل الناس الأفكار فهذا مبعث ازدهاره ورواجه، وإنّما يحدث ذلك لأنّ الفكر بطبيعته جميل وجذّاب، وإنّما تم الكشف عنه. جميع الناس ينشدون الأفكار المهمة حتى لو لم يدركوا ذلك بالوعي. يبقى عالم الفكر من أكثر الأمور المذهلة في الحياة؛ واهتمام الناس به نابعٌ بكل بساطة من كونه يعينهم على تحسين حياتهم والخروج من كل معاناة. 

 

الأمر المؤكَّد هنا هو أنّ هناك الكثير من الأفكار العظيمة التي لم تصل إلى الكثير من الناس. هناك احتمال كبير واعتقاد عميق بأنّ حياة البشر ستتحسن باضطراد فيما لو ذاعت هذه الأفكار وانتشرت.

 

إذًا، واحدة من أكبر مشاكل البشرية هي التي ترجع إلى صعوبة الوصول إلى الأفكار. 

 

نتصور بأنّ قسمًا مهمًّا من الأفكار العظيمة ما زال محبوسًا في الصدور أو الأذهان أو يتحرك في الوسائل التي تعجز عن الوصول به إلى الناس. اقرأ نهج البلاغة وسوف يعتريك هذا الشعور الممتزج بالحسرة والأسى وتقول: لماذا يجهل الكثيرون وجود مثل هذا الكتاب العظيم؟

 

 في زمنٍ ما كان المستوى اللغوي والبلاغي عند الناس يسمح لهم بالاستمتاع بقراءة كتاب نهج البلاغة الذي احتوى على أعظم الحكم؛ هذا بغض النظر عمّا حدث جرّاء العوامل المذهبية والعصبيات السياسية التي حالت دون ذلك. أبدع الشريف الرضي بوضع هذا العنوان لكتابٍ احتوى على الكثير من الأفكار التي تخالف المعتقدات السائدة. العنوان أوهم الكثيرين أنّهم أمام كتاب للمتعة البيانية أو يمكن أن يساعدهم على التطور اللغوي. هكذا، انتشر هذا الكتاب في مجتمعات ما كانت لتتقبل أفكاره فيما لو جاء تحت عنوان "كشف أسرار ما جرى بعد النبي الأكرم (ص)" أو عنوان "حقيقة الاختلاف بين المسلمين" وأمثال ذلك. بقي الكتاب منشورًا إلى يومنا هذا إلى حدٍّ ما، والسر يرجع إلى العنوان!

 

إذا أردنا أن نساهم في تحسين حياة البشر يجب أن نعمل على نشر الأفكار العظيمة. ولحسن الحظ فإنّ وسائل التواصل الجمعي تتيح لنا اليوم الوصول إلى كل إنسان على وجه المعمورة. مشكلة الوصول والإيصال أضحت من الماضي. أتصور أنّ الأنبياء أنفسهم عانوا كثيرًا من إيصال كلمتهم وتبليغ دعوتهم، ليس فقط بسبب معارضة المعاندين، بل لأنّ طبيعة حياة الناس في تلك العصور كانت توجد صعوبات بالغة في التواصل؛ ولعل هذا ما يفسر نظرة الإسلام السلبية تجاه العيش في البوادي.

 

لكن التحدي الأكبر الذي يقف بوجه إيصال الأفكار العظيمة اليوم، هو ما يرتبط بعدم إتقان استخدام هذه الوسائل الحديثة؛ مما يؤدي إلى أمر آخر وهو موت الأفكار قبل ولادتها! لكي يزدهر الفكر في المجتمع يجب أن يزدهر أولًا في ذهن المفكّر. ولكي يزدهر في ذهن المفكّر يجب أن ينبعث منه إلى الخارج. ولكي يخرج من ذهن المفكر يجب أن يجد من يستمع إليه. إن الأمر هنا أشبه بالتنفيس.

 

مع انحباس الفكر في الذهن يحصل له ما يشبه حالة الاختناق؛ هكذا تموت الأفكار العميقة. وإذا خرجت ووجدت لها متنفسًا فإنّ ذلك سيفسح المجال لولادة المزيد من الأفكار.

 

إذا كنت تمتلك عشر أفكار عظيمة ووجدت لها مستمعًا بالقدر الذي يتناسب مع أهميتها (بعض الأفكار قد تحتاج إلى مليون مستمع أو أكثر) فالمرجّح أنّك ستحصل بعد ذلك على عشر أفكار عظيمة أخرى، وهكذا.

 

التناسب بين عظمة الفكرة وأهميتها ودورها من جهة، وعدد المستمعين المتلقين المتفاعلين من جهة أخرى، هو القصة كلها. في عالم الفكر لا ينبغي للمفكّر أن يقول: "قل كلمتك وامشِ"، بل يحتاج إلى التأكد من فهم المخاطَب بها فهمًا جيدًا، لتبدأ مرحلة التفاعل. لا يمكن للمفكر أن يشعر بالتنفيس عن كرب تلجلج الفكر في باطنه وذهنه إلا بعد أن يطمئن إلى أنّ أفكاره قد سلكت طريقها الطبيعي نحو التجسّم في عالم الواقع، ولو بعد حين.

 

والتجسم هو الذي يؤدي إلى ببقاء الأفكار وخلودها.

 

الكتابة هي أوضح مثال على تجسيم الأفكار؛ كلما كانت وسيلة التجسُّم ذات قابلية للانتشار والخلود، كانت أكثر تنفيسًا عن الكرب. لذلك، فإنّ المفكّر الذي يبحث عن ازدهار الفكر في ذهنه قبل ذهن غيره، عليه أن يبحث عن أفضل وسائل التعبير التي تمكّنه من تجسيم أفكاره.

 

هنا يأتي دور الفن بكل أشكاله. فالفن هنا هو هذه الوسائل التعبيرية التي تمتزج بالجمال وتنطلق منه. ولأنّ الجمال أمرٌ فطري، والفطرة أمرٌ ثابت على مدى العصور في جميع البشر، فهنا يكمن السرّ في خلود الأعمال الفنية أو الأفكار التي تم التعبير عنها في قوالب الجمال.

 

حين يجد أي مفكّر القدرة على إظهار أفكاره بواسطة الفن، فإنّه سرعان ما سيشعر بسريانه بسهولة تدحرج الماء من أعلى المنحدر. وحين يتصل الإنسان بعالم الفن يقدر على تلمس جمال الأفكار أكثر من غيره، فيصبح باطنه مستودعًا مناسبًا لها، لا تتلجلج فيه لتخرج منه وتفرّ، بل تسعى لتتحد مع نفسه حتى تصبح جزءًا لا يتجزأ منها.

 

الفنون الجميلة هي طريقة التنفيس عن كرب النفس حين تختزن الأفكار المهمة؛ وبسببها تصبح هذه النفس محلًّا مناسبًا لازدهار الفكر. 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد