تكمن مهمّة المفكّر الأساسية في مساعدتنا على تطبيق الدين في واقع الحياة. قد تبدو هذه الجملة سهلة لكن مع قليلٍ من التأمُّل يجب أن نضيف إليها صفة الامتناع (السهل الممتنع).. فما هو الدين الذي يسعى هذا المفكر لتطبيقه؟ أهو الدين الذي فهمه هو؟ أو الذي جاء من عند الله دون تحريف؟ هل يمكن للمفكر أن يتجاوز نطاق فهمه هنا، كما هو حال الأنبياء الذين تلقوا الوحي بعد التجرد من فهمهم؟ وبالتالي يصل إلى الدين الحق وحقيقة الدين؟
يصعب، بل يكاد يكون مستحيلًا على المفكر أن يتحدث عن الدين إلا بما فهمه منه. الدين، وإن كان واحدًا عند جميع المفكرين الإسلاميين، لكنّه يتعدد ويتكثر بتعددهم واختلافهم؛ ليس بسبب تكثر الدوافع فحسب، بل حتى بما يرتبط بطرق التفكير ومناهجه وقدراتهم الفكرية أيضًا.
إذًا، يحتاج المفكر إلى زيارة الدين دومًا والتجوال المتواصل في مصادره، ليعيد النظر فيما فهمه مرة بعد أخرى (ولا يحصل ذلك إلا لمن تجرّد وطرد التكبر والاستعلاء من نفسه). يسلّم معظم المفكرين بهذه الحقيقة وهي أنّ فهمهم للدين قد تطوّر مع مرور الزمن، ويعترف بعضهم بأنّه انتقل في فهمه من مقلبٍ إلى آخر!
الأمر الآخر الذي يؤثر كثيرًا على فهم الدين هو الواقع نفسه. لا نقصد الواقع المجرد لأنّه لا مكان له في عالم الذهن، بل الواقع كما نراه نحن. كلّ واحدٍ منّا لديه تصوُّرات معينة حول الواقع، كالاختلاف بين المادي والإلهي في تحديد نطاق الوجود.
الواقع معقدٌ جدًّا وعميق ومتشعب وذو طبقات في كل مرتبة من مراتبه. الواقع الاجتماعي شديد التعقيد والتركيب إلى الدرجة التي نرى معها كل هذا الاختلاف في فهمه واستشرافه.
غالبًا ما نغفل عن تأثير معرفتنا وتصورنا للواقع على فهمنا للدين نفسه. يحاول الكثيرون من أهل الفكر أن يتعرفوا إلى الدين بمعزل عن الواقع وذلك من خلال قراءة نصوصه الأساسية والسعي لفهمها بتجرد من خلال قراءة الكتب. كلمة تجرّد هنا مضللة للغاية. عند قراءتنا للنص الديني غالبًا ما نطبق عليه ما نعتبره مسلَّمًا، فنستبعد ما نستبعد ونستقرب ما نستقرب. ليس غريبًا أن يميل المفكرون الذين ترعرعوا في أجواء المذهب السنّي إلى الديمقراطية أكثر من مفكري الشيعة انطلاقًا من عقيدتهم بشأن كون الخلافة شورى.
إصرار المفكر على قراءة الدين بمعزل عن الواقع، وإن كان عبثيًّا وغير واقعي، يؤدي إلى العجز عن الاهتداء إلى طريقة الدين في تغيير الواقع. في الدائرة المصغَّرة يمكن أن نجد مثالًا على هذا فيما يقوم به الفقيه على صعيد استنباط الأحكام لموضوعاتٍ يجهلها أو لا يعرف حيثياتها.
إصرار المفكر على التعامل مع الواقع بمعزل عن الدين يحرمه من هداية الوحي التي تتمثل في الدين. الوحي هو طريق الله لهداية البشرية في تعاملها مع الواقع.
لو ظل المفكر يفكر في الواقع ربما لعشرات السنين لن يهتدي إلى كون هذا الواقع متجهًا نحو مصيرٍ إلهي، أو كما يُعبّر القرآن الكريم نفسه: {كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُون}.[1] هذه الصيرورة غير ملموسة ولا يمكن للعقل البشري أن يدركها بمجرد إعمال الفكر؛ بل غالبًا ما توصّل المفكّرون إلى عكس ذلك، كأنّ الواقع عندهم يتجه نحو العبثية والهلاك.
هكذا انقسم مفكّرونا إلى فئتين أساسيتين؛ فئة استغرقت في الكتب، وفئة انساقت نحو الواقع وفق نظامها الفكري الخاص. وكنا نحن الخاسر الأكبر من وراء هذا الانقسام. لم يكن بأيدينا ما نحتاج إليه ليسعفنا في أصعب الظروف والتحديات وفي المهمات الكبرى والقضايا العظمى. ظهر ديننا على يد الفئة الأولى كفكرٍ معزولٍ عن الواقع: فما هو نفع كل هذه الأحكام التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة، لكنّها لا ترشدنا إلى كيفية بناء القدرة اللازمة للدفاع عن أنفسنا والمضي قدمًا على طريق بناء الحضارة والنموذج؟!
وظهر فكرنا في الغالب كنسخة باهتة مقلّدة لعقول أخرى ابتعدت عن الدنيا بحجة الموضوعية وعدم الانحياز وأمثاله. لم نتفوق في هذه الساحة أيضًا. ففي كل مجال دخله مفكرونا معتمدين على عقولهم كان الآخرون يسبقونهم بأشواط. يشبه هذا الأمر سعينا لمسابقتهم في مجال التكنولوجيا وعلومها.
فلا إسقاط الدين على الواقع صحيح، ولا إسقاط الواقع على الدين هاد. هذا، وإن كان أصحاب الفئة الأولى غالبًا ما يستخدمون نفوذهم وموقعيتهم بين الناس لاستخدام سلاح الدين ضد كل من يخالفهم. لا يشعر الكثير من أهل هذه الفئة أنّهم يمارسون القمع لأنّهم تربوا على سلسلة من المعتقدات التي تحتم عليهم الدفاع عن الدين بوجه كل من تسوّل له البدعة فيه. قد يكون هؤلاء أكثر الناس ابتداعًا وهم لا يشعرون.
يُطرح في الأبحاث الأصولية والفقهية مسألة جواز قول الفقيه عن فتاواه أنّها فتاوى الإسلام. يكون الجواب في الغالب أنّه لا بأس بذلك رغم علمه بأنّه يفتي بالظن (بعد إضفاء الاعتبار على هذا الظن). سرعان ما يتحول مثل هذا الجواز إلى نزعة تشمل كل ما يرتبط بالنصوص الدينية وغيرها. يقول هذا الفقيه بكل جزم: الإسلام يقول كذا والإسلام لا يقول كذا، مع أنّه يعلم في قرارة نفسه أنّ هذا هو رأيه أو في الأغلب رأي آخرين ينقل عنهم دون تحقيق.
ما يحتاج إليه أهل الفكر في سعيهم لتحليل الواقع وفهمه وتقديم المقترحات المتعلقة بإصلاحه وتكميله (لأن الواقع بحسب رؤيتنا هو أمر سيال متحرك نحو غايتين) هو أن يمروا على الدين من فهم الواقع ثم يمروا على الواقع من خلال ما عرفوه من الدين، وأن يستمروا على هذا المنوال دون الاقتصار على أحدهما. فبذلك تتكامل معرفتهم بالأمرين وتكون ثمار أفكارهم هادية نافعة أكثر من غيرهم.
ففي النهاية سيحكم الواقع علينا بقوته الحاسمة. ولذلك قال تعالى: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}.[2] رغم أنّ فيهم الكثير من الأحبار والرهبان الذين يقرأون الكتاب ويدرسونه ليل نهار.
حين يتغلب عليك عدوّك الذي تعتبره كافرًا أو يتسلط عليك ليتحكم بكل شيء في حياتك، فهذا ليس بالواقع البسيط الذي يمكن أن نمر عليه مرور الكرام. سيلقي هذا الواقع بظلاله عليك وعلى كل من حولك لمدة طويلة جدًّا، وسوف ترى على أثر ذلك كيف يرتد الناس عن دينهم أفواجًا أفواجا. كل ذلك الفكر الذي طرحته عليهم ووعدتهم بأنه يصلح واقعهم وينجيهم من الكارثة بات هباءً وأصبح كالزبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. سورة الأنبياء، الآية 93.
[2]. سورة المائدة، الآية 68.
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ باقر القرشي
د. سيد جاسم العلوي
حيدر حب الله
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
الشيخ علي رضا بناهيان
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
مهمة المفكّر المستحيلة.. كيف يهتدي المفكرون إلى سبل النجاة؟
فوائد المشي الياباني
الاتفاق على ثبوت واقعة الغدير بالثبوت التاريخي والمتواتر الصحيح (2)
يوم أعلن النبيّ (ص) ولاية عليّ (ع) (2)
الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي (2)
(كيف نفكّر ونتصرّف كما نتصرّف) جديد المترجم عدنان الحاجي
الغدير: وأتممت عليكم نعمتي
مجادلة أهل الكتاب
الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي (1)
(الملكوت) في الكتاب والسنّة والعلاقة بينه وبين المصطلح الفلسفي