علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد رضا اللواتي
عن الكاتب :
كاتب وباحث عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية، صدر له "المعرفة والنفس الألوهية في الفلسفة"، "برهان الصديقيين"، وله رواية بعنوان "البعد الضائع في عالم صوفي"، استدراكاً على الرواية العالمية (عالم صوفي)، يستعرض فيه تاريخ الفلسفة الإسلامية وأشهر رموزها وأهم إنجازاتها ومسائلها.

تأملات فلسفية في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا (2)


محمد رضا اللواتي

مرت في الحلقة الأولى إشارة مقتضبة إلى ما آلت إليه الأمور في أوروبا حول إخلاء العالم من "الألوهية" والبحث عن بديل لها. يقول "يسبرز": "كيف يمكن أن يكون الله قد مات؟ لماذا يقتل الناس الله؟ لأن الله يرى أعماق الإنسان، والإنسان لا يتحمل أن يبقى حيًّا شاهدًا من هذا النوع"(1)
من مظاهر أؤلئك الذين لا يتحملون أن يكون ثمة شاهد كهذا عليهم، لا سيما وأنه يعدهم بالمحاسبة على ما يقترفونه من مظالم في حقوق الأبرياء............
أيضًا، مرت الإشارة إلى بروز تيار يمنع التفكير الفلسفي في الإلهيات، في العالم الإسلامي، بحيث أن أمر الإيمان الديني آل إلى الخمود واتسم بالبعد عن زج العقل في مضامينه، كما وصفه لنا "فؤاد زكريا". ومع بروزه، فإن ثمة من اعتنق، من المحققين، رؤية تخالفه تمامًا، وتقول بأن الفكر الديني يعتنق التأمل الفلسفي ويدعو العقل إلى إمعان التفكير في مضامينه وعدم تبني أيٍّ منها إلا في ظل البرهان، سبق وأن ذكرناها في الحلقة المارة(2)

لقد كان بودنا أن نعتنق وجهة نظر "زكريا"، إلا أن الآيات التاليات استوقتنا طويلًا:
"الله نور السماوات والأرض"
" لا تأخذه سنة ولا نوم"
"وسع كرسيه السماوات والأرض"
"الرحمن على العرش استوى"
"هو الأول والآخر والظاهر والباطن"
"هو الحي"
"وهو معكم أينما كنتم"
"كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"
"قل هو الله أحد الله الصمد"
"ليس كمثله شيء"
"إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون"

وغيرها العديد جدًّا، بحيث يمكن القول أن الكتاب المجيد مشحون بذكر الذات الإلهية ومظاهرها وتجلياتها وشؤونها. هذه المضامين ما أتت إلا برفقة آية تطالب المرء بالتدبر والتفكر فيها، وهي: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، والتي تحمل عتابًا لأؤلئك الذين أقفلوا مقدراتهم الفكرية وجمدوا على ظواهر الألفاظ، بل وحرموا الآخرين أيضًا من التدبر والتفكر.
بناء على هذه الوفرة من المضامين في الألوهية وشؤونها، مرفقة بدعوة وحث شديد على إعمال الفكر فيها، يمكننا حسم خيارنا حول الرؤية التي نتبناها تجاه مسألة التفكير الفلسفي في مضامين الآيات اللاتي تتحدث عن الأفق الأعلى وصلة الإنسان به.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هاهنا هو: ما الذي حدا بجماعة من المحققين اتخاذ موقف متزمت للغاية من التفكير في شؤون الألوهية، رغم أن الدعوة إلى إعمال العقل والتفكير تجاوزت نيفًا وثلاثمائة آية في الكتاب المجيد؟
كيف تم الاستنتاج أن الفكر الديني يقف على طرف مقابل من التأمل العقلي؟ ففي حين يقول القرآن "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" فربط الصدق في المدعى بتوفر دليل، كيف نشأت الفكرة التي تقول بأن الفكر الديني يطالب بالإيمان الصامت الفاقد للدليل ولا يسمح للمناقشة ولا للتساؤلات أن تمرق إلى أصوله ومتن قواعده؟
فهل هذا الموقف سببه ذلك الجدل الذي وقع بين المسلمين وتنوعت أفكارهم في الإلهيات بسبب انتقال المعارف اليونانية وغيرها عبر الترجمات كما يذهب إليه جماعة(3)؟ أم أن بعض رواد المسيحية كانوا وراء ظهور الجدل الذي دار بين المسلمين وسبب في نشوء مذاهب في القدر حسبما ذكر "ابن حجر" أن أول من تكلم في "القدر" رجل مسيحي اسمه "سوسن" أخذ عنه "معبد الجهني" و "غيلان الدمشقي"(4)؟ أم أن أهل الجدل والمحاورات في القدر طغت عليهم نزعة التفشي والانتقام فوقفت دون أن تثمر محاوراتهم إلى ما يتسق مع البرهان(5)؟
مهما كانت الأسباب، إلا أنه من المحتم خلو المضامين الإلهية التي عرضتها آيات الكتاب المجيد للتأمل العقلي والتفكير الفلسفي من العوامل التي تؤدي إلى نشوب النزاعات، كما ويخلو التفكير بما هو تفكير من تلك الدوافع، وإلا لما استقامت الدعوة إلى التدبر في ما من شأنه شق الاجتماع وبث الفرقة.

بناء على ما مر، لا نجد إلا تبني الرؤية التي تقول بأن الإيمان الديني "عقلي جدًّا" ومعتقداته "فكرية للغاية"، وإلا فلعل ما تم التوصل إليه بعيدًا عن البرهان، قد لا يكون يمت إلى الفكر الديني بصلة.
ونعود إلى البرهنة على الوجود الإلهي، حيث يواجهنا السؤال التالي حوله:
هل أن ذلك متاح وفي مقدور التجربة البشرية؟ أم أن الأمر خارج عن إمكانتها المحدودة التي لا يمكنها تجاوز عالم المكان المكبل بقيود الزمان والبلوغ إلى شطآن اللانهائية؟
"فخري" في "أبعاد التجربة الفلسفية" أجاب عن هذا التساؤل بالإيجاب، وقد أسند جوابه على الإمكانات المعرفية اللانهائية التي يمتلكها الكائن البشري(6)، ويوافقه "كرم" الذي يقول: "جعلوا من البرهنة على وجود الله معضلة كبرى، وهي في الحقيقة من أيسر البرهات"(7)، ويبدو أنه يرد على أمثال الفيلسوف الألماني الشهير "كانط"، الذي صرح يقول بأن كل محاولات الميتافيزيقيين لإثبات الألوهية لا تخلو من خطأ ما(8).

وبين هذين الاتجاهين، هنالك من اجترح طريقًا ثالثًا، إذ ذهب إلى أن إثبات وجود الألوهية غير متاح، لا لقصر الوسائل، ولا لعجز الأدوات، وإنما لأن "الوجود الإطلاقي" الذي لا حدود له، لن يكون ثمة ما يمكن عده أجلى منه فيكون دليلًا عليه!
وبعبارة أخرى: الدليل يُظهر المستدل عليه، ومعنى هذا أن ثمة أمر يصلح لأن يكون دالًّا على ما وجوده يكون لا نهائيًّا، فيكف صح هذا؟ كيف أمكن لذلك الدال أن يكون أجلى مما لا نهاية لفرط ظهوره؟ كيف للشموع أن تُظهر وجه الشمس الذي لولا ضياؤه لغرقت في دامس الظلام؟

وبالعبارة المنسوبة إلى أبو الشهداء الحسين بن علي:
"كيف يستدل عليك بما هو مفتقر في وجوده إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبُا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبُا؟"(9)
ومعنى ذلك أنه لا ثمة سبيل للبرهنة على الوجود الإطلاقي "من خارج ذاته"، بل السبيل متاح فحسب ببلوغه من خلال "ذاته" وليس "بغيره".
وإلى هذا عنى الرئيس "ابن سينا" عندما قال أنه لا ثمة سبيل للتدليل عليه إلا من ذاته(10). وإلى هذا التوجه كذلك، مال جمع من المحققين عندما قالوا أن الكتاب المجيد يخلو بالمرة من برهان صريح على الوجود الإطلاقي(11) لأنه – أي الكتاب المجيد – قد عد مسألة وجوده بديهية لا تحتاج إلى برهان : "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"(12)؟

وهذا كان، على وجه التحديد، منطلق "الفارابي" و "ابن سينا" الذي حدا بهما إلى سلوك طريق جديد لإثبات وجود الموجود الإطلاقي، طريق لا يمر عبر الدلائل لأنها ليس بمقدورها أن تكون أجلى منه. ففي فصوص الحكم، ذكر "الفارابي" أن ثمة طريقان يمر العقل عبرهما لإثبات موضوع الألوهية، قال:
"لك أن تلحظ عالم الخلق فترى فيه أمارات الصنعة، ولك أن تعرض عنه وتلحظ عالم الوجود المحض، وتعلم أنه لا بد من وجود بالذات، وتعلم كيف ينبغي أن يكون عليه الوجود بالذات، فإن اعتبرت عالم الخالق فأنت صاعد، وإن اعتبرت عالم الوجود المحض فأنت نازل"(13).
أما "ابن سينا" فبعد أن صرح يقول أنه "من القبيح أن يُصار إلى الحق عن طريق الحركة"(14)، عكف يضيغ برهان "الإمكان" أو "واجب الوجود" بالتأمل في مفهوم الوجود وبقطع النظر عن المصنوعات.
إذن، الرجلان عهدا إلى التجربة الفلسفية لكي تبت في المسألة، وبما أن الفلسفة عملها الأول والأساس هو التأمل في "الوجود"، فالبحث، وبطبيعة الحال، سيتخذ وجهة التحري عن "واجب الوجود"، ذلك الموجود الذي يتمتع من ذاته بضرورة الوجود بنحو مستمر.
 سنعود لتقديم صيغة برهان "واجب الوجود" في الحلقة التالية.
........................
المصادر:
1)    الشامي، علي: الفلسفة والانسان ص383
2)    الطباطبائي، محمد حسين: علي والفلسفة الإلهية ص11 (نعتذر من القراء الكرام لعدم ظهور الهامش رقم 12 من الحلقة الأولى)
3)    شمس الدين، محمد جعفر: دراسات في العقيدة الاسلامية ص67
4)    ابن حجر: تهذيب التهذيب ج9ص34.
5)    الشابي، علي: مباحث في علم الكلام والفلسفة ص14.
6)    فخري، ماجد: أبعاد التجربة الفلسفية ص169
7)    كرم، يوسف: الطبيعة وما بعد الطبيعة ص142
8)    زيدان، محمود: كانط وفلسفته النظرية ص325
9)    القمي، عباس: مفاتيح الجنان: من دعاء للإمام أبي الشهداء الحسين بن علي يوم عرفة. ص479
10)    ابن سينا: التعليقات ص70
11)    السبحاني، جعفر: معالم التوحيد ص16
12)    القرآن المجيد: سورة إبراهيم الآية 10
13)    الفارابي: فصوص الحكم، فص 19 ص42

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد