علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد رضا اللواتي
عن الكاتب :
كاتب وباحث عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية، صدر له "المعرفة والنفس الألوهية في الفلسفة"، "برهان الصديقيين"، وله رواية بعنوان "البعد الضائع في عالم صوفي"، استدراكاً على الرواية العالمية (عالم صوفي)، يستعرض فيه تاريخ الفلسفة الإسلامية وأشهر رموزها وأهم إنجازاتها ومسائلها.

تأملات فلسفية في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا(3)


محمد رضا اللواتي

مرت في الحلقة الفائتة الإشارة إلى الأسباب التي دعت كل من "الفارابي" و "ابن سينا" إلى ابتكار برهان جديد لا يمر عبر الخلق ومشاهدة الآثار، وإنما يحقق في "الوجود" تحقيقًا فلسفيًّا.
ونود في هذه الحلقة تقديم صيغته للقارئ عوضًا عن النظر في الإرث الاستدلالي لفلاسفة أوروبا بحثًا عن منتج يمكن الركون إليه، والسبب هو أن ذلك الإرث عانى ولا يزال من "قصور" في المفاهيم "الفلسفية"(1)، الأمر الذي كان أحد أهم أسباب اجتياح الإلحاد أوروبا، ولم نجد في برهان "أنسلم" الذي أعاد تدشينه مؤخرًا "سايفرت" وبُحلة قشيبة، مستندًا على "الفينومينولوجيا"(2)، أمرًا جديدًا يستطيع جبر كسر ذلك البرهان العتيق، لذا نستعيض عنه بما في إرثنا من الحدة الفلسفية والاستحكام المنطقي في هذا المضمار.
يمكننا تقديم صيغة للبرهان الذي دشنه الحكيمان وفق التأملات الفلسفية التي مارساها، بالطريقة التالية:
لا بد للموجود، بحسب التأمل الفلسفي- أن يكون إما وجوده من "ذاته"، فيكون "ضروري الوجود" أو بحسب الاصطلاح "واجب الوجود"، وإما أن يكون وجوده من "غيره"، فيكون "ممكن الوجود"، ولا يخرج أي موجود –عقلًا- عن هذين الفرضين الملزمين.

ومن المستحيل جزمًا أن تكون كلّ الموجودات "ممكنه الوجود"، وذلك لأنّ "ممكن الوجود" محتاج لسبب يوجده، لأن ذاته تخلو من الوجود بالذات، فلو كانت كلّ العلل التي أوجدته وأنتجت بعضها بعضا تصاعديًّا ممكنة الوجود، لاحتاجت كلها إلى علّة توجدها.
تسلسل العلل إلى ما لا نهاية غير ممكن، فمؤداه عدم تحقق شيء، إذن لابدّ من أن تنتهي سلسله العلل إلى موجود غير معلول لموجود آخر، أي واجب الوجود.
ولكي تتضح قاعدة الافتراض العقلي الملزم، والذي بموجبه يتم تقسيم الموجود إما إلى "واجب الوجود" وإما إلى "ممكن الوجود"، لنتأمل أي قضية مهما كانت بسيطة لنكتشف المسألة، فمثلًا: "السماء صافية" و "النار مستعرة"، نجد أن موضوع الجملة الأولى "السماء" وموضوع الجملة الثانية "النار" بينهما بمحمولهما "صافية" و "مستعرة" علاقة لا تخلو أن تكون إما "واجبة" و"ضرورية" بحيث أن السماء صافية بشكل ضروري، والنار مستعرة بشكل ضروري كذلك، وإما أن تكون العلاقة تلك بين الموضوع والمحمول "ممتنعة"، وإما أن تكون العلاقة "ممكنة" تقبل أن تكون، وكذلك تقبل أن لا تكون.
ومن الواضح أن العلاقة بين الموضوع وبين المحمول في المثالين المارين لا يمكن أن تكون "واجبة" و "ضرورية" مثل "الكل أكبر من الجزء"، فلا السماء تكون صافية بالضرورة دائمًا وبنحو لا يقبل التخلف، ولا النار تكون مستعرة بهذا النحو. وكذلك، فالعلاقة بينهما ليست ممتنعة الوجود، كما هي في "الجزء أكبر من الكل"، فلم يتبقّ إلا فرض "الإمكان" فحسب، ومعناه أن السماء يمكنها أن تكون صافية، كما ويمكنها أن تكون ملبدة بالغيوم، وهكذا النار، فالإمكان إذن حالة تستتبع "السبب" الذي يؤثر فيها، في حين "الوجوب" حالة لا تستتبع "السببية" لأن الذات تفرض ضرورة الوجود من ذاتها.

النقطتان المارتان يتم ذكرهما عادة في البحوث الفلسفية تحت بند "أحكام الإمكان والوجوب".
فممكن الوجود، لا يفرض ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم من ذاته. ذاته "خلو" من الوجود ومن العدم كذلك، لذلك فهو "ممكن الوجود"، بينما "الوجوب" يفرض ضرورة الوجود من صميم الذات، لأن ذاته مملوء بالوجود بنحو الوجوب، فلا يمكن خلوه منه لأن الشيء لا يكون خاليًا من ذاته!
لن يتسنى لممكن الوجود تعبئة ذاته من الوجود بذاته لأن "فاقد الشيء لا يُعطيه"، بينما لا سبيل إلى خلو ضروري الوجود من الوجود لاستحالة فقد الشيء نفسه. وإذا كان "ضروري الوجود" فعلًا ضروي الوجود، فلن يكون ممكنًا تصور عدم وجوده وإن للحظة، فحُكم "أزلي وأبدي الوجود" ملازمة له عقلًا.
وعليه، متى ما عثرنا على "ممكن الوجود" فلا بد من وجود "ضروري الوجود" لأنه الحل المنطقي الوحيد لتفسير تواجد "الممكن" في ساحة الوجود. ومن غير الممكن عقلًا تصور عدم تناهي سلسلة العلل الممكنة إلى ما لا نهاية لأن السلسلة برمتها "محتاجة" إلى الوجود من خارج ذاتها.
فإذا توضحت أحكام ممكن الوجود وواجب الوجود، نسأل السؤال الأهم:
ما حكم العالم الخارجي وفق التحليل العقلي المار، أهو "واجب الوجود"؟ أم أن العالم الخارجي بقضه وقضيضه "ممكن الوجود" ومفتقر لأجل أن يضع قدمه على بساط الوجود إلى "واجب الوجود" لاستحالة "التسلسل"؟
إن التأمل في أحكام "ممكن الوجود" و "واجب الوجود" تدلان بمنتهى الوضوح أن حُكم العالم هو "الإمكان" وليس "الوجوب"، ذلك لأن ضروري الوجود لا يخلو منه، في حين أن العالم تجتاحه الحركة من سطحه إلى عمقه، والحركة تعني تغيره المستمر، والتغير إمارة على فقد وكسب للوجود بنحو مستمر، وفقد الوجود وكسبه ليست من مواصفات "واجب الوجود" الذي هو والوجود أمر واحد.

العالم في كل آن يتحقق، فهو خلو من الوجود بالذات، ومعنى ذلك أنه "معلول" ولا بد له من "علة" لاستحالة إضفاء فاقد الوجود وجودًا على ذاته من ذاته.
وبثبوت حكم المعلولية، وحكم الإمكان على العالم، تثبت حاجته إلى "علة" و إلى "واجب الوجود". صاغ هذه الفكرة الفيلسوف "نصير الدين الطوسي" بعبارة متقنة وموجزة فقال: "الوجود، إن كان واجبًا فهو المطلوب، وإلاّ استلزمه لاستحالة الدور والتسلسل(3)". ومعنى ذلك: لا بد من وجود "ضروري الوجود" وإلا، فإن وجود "ممكن الوجود" يستلزم وجود "واجب الوجود" لاستحالة التسلسل.
الشيخ الرئيس وبعد أن نقح البرهان وقدمه بصياغة متقنة جدًّا ومحاطة بقانون المنطق العقلي الصارم، في كتابه "الإشارات والتنبيهات" قال:
"تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلًا عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أى إذا اعتبرنا حال الوجود يشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده فى الوجود، وإلى مثل هذا أشير فى الكتاب الكريم : "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"، أقول : إن هذا حكم لقوم، ثم يقول: "أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد"؟ ، أقول: إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه"(4).
إذن، "ابن سينا" يؤكد بأنه ابتكر هذا البرهان من منطلق الآية "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ  أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"، فغاص في تأمل عقلي مستندًا على المنطق، يتأمل مفهوم "الوجود" فبلغ ضرورة وجود واجب الوجود.
ولكن، لنتأمل بدقة الكلمة التي ختم بها الرئيس برهانه، قال:
"إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه"(5)!

فهل نجح حقًّا في تقديم رؤية عقلية تحكي عن رؤية عرفانية شهودية للصديقين عندما ينظرون إلى العالم فيرون أول ما يرونه هو الله؟!
سنعود للتحقيق في المسألة في الحلقة التالية...
....................
المصادر:
1)    مطهري، مرتضى: الدوافع نحو المادية ص31
2)    سايفرت، يوسف: البرهان الفينومينولوجي الواقعي على وجود الله ص474 وما بعده. ترجمة وتقديم: حميد لشهب.
3)    الطوسي، نصير الدين: تجريد الاعتقاد، ص305: شرح العلامة الحُلي.
4)    ابن سينا: الاشارات والتنبيهات: ج3ص45
5)    ابن سينا: الاشارات والتنبيهات: ج3ص45

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد