روى الشريف الرضي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عندما تولى الخلافة بعث جرير بن عبد الله البجلي بكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان يطلب فيه منه البيعة. وهذا نص الكتاب برواية الشريف: بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضًا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى (1).
قال الزبير بن بكار في (الموفقيات) (2): إن عليًّا عليه السلام لما بعث جريرًا إلى معاوية خرج وهو لا يرى أحدًا قد سبقه إليه. قال: فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس، وهم حوله يبكون حول قميص عثمان وهو معلق على رمح مخضوب بالدم فدفعت إليه كتاب علي عليه السلام فقال معاوية: أقم فإن الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا... ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبة. فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين أبيضين ثم طواهما، وكتب عنوانهما ودفعهما إلي، لا أعلم ما فيهما ولا أظنهما إلا جوابًا، وبعث معي رجلاً من بني عبس، فخرجنا حتى قدمنا إلى الكوفة، واجتمع الناس في المسجد، لا يشكون أنها بيعة أهل الشام، فلما فتح علي عليه السلام الكتاب لم يجد شيئًا، وقال العبسي فقال: إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته في البر والبحر، ثم دفع إلى علي عليه السلام كتابًا من معاوية ففتحه فوجد فيه:
أتاني أمر فيه للنفس غمة
وفيه اجتداع للأنوف أصيل
مصاب أمير المؤمنين وهدة
تكاد لها صم الجبال تزول (3)
كلمة ابن أبي الحديد:
يقول عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح هذا الكتاب: واعلم أن هذا دال بصريحه على كون الاختيار طريقًا إلى الإمامة، كما يذكره أصحابنا المتكلمون، لأنه احتج على معاوية ببيعة أهل الحل والعقد له، ولم يراع في ذلك إجماع المسلمين، لأن سعد بن عبادة لم يبايع، ولا أحد من أهل بيته وولده، ولأن عليًّا وبني هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدأ الأمر، وامتنعوا، ولم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم. وهذا دليل على صحة (الاختيار) وكونه طريقًا إلى الإمامة، وإنه لا يقدح في إمامته عليه السلام امتناع معاوية من البيعة وأهل الشام.
فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه عليه السلام على التقية، وتقول: إنه ما كان يمكنه أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال، ويقول له: أنا منصوص علي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل، فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين، وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة. وهذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها، ويصار إليها، ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية (4).
نقد كلام ابن أبي الحديد:
وليس ابن أبي الحديد مصيبًا فيما يراه من دلالة كتاب علي عليه السلام على شرعية مبدأ الاختيار. ونستطيع أن نفهم هذه الحقيقية من خلال نقطتين:
النقطة الأولى: أن الإمام عليه السلام ليس بصدد بيان رأيه في شرعية البيعة والاختيار في هذا الكتاب وإنما يخاطب بهذا الكلام معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية لا يعترف بالنص، ولا يريد أن يتخلى عن ولاية الشام، ويطمع في إمرة المؤمنين، ولا طمع للإمام في أن يقنع معاوية بن أبي سفيان بوجهة نظره ورأيه في الإمامة، ولا طمع للإمام في أن ينصاع معاوية للحق فهو عليه السلام يعلم أن معاوية مقدم على التجني عليه وعلى المسلمين فيقول له في هذا الكتاب نفسه، فتجنّ ما بدا لك والسلام.
وإنما يريد الإمام في هذا الكتاب أن يلزم معاوية أمام الملأ من أهل الشام بإمامته وطاعته ولزوم بيعته وحرمة مخالفته بما يلتزم به، فقد انعقدت له الإمامة بما انعقد من قبله للخلفاء الثلاثة.
فلم ينعقد على خلافة أحدهم إجماع المسلمين، ولم تضرّ بشرعية خلافة أحدهم مخالفة من خالف من المسلمين، إذا اجتمع وجوه الأنصار والمهاجرين. وعلى ذلك فإن معاوية ملزم بالاستجابة لبيعة المسلمين للإمام من بعد خلافة عثمان، فقد بايعه من وجوه الأنصار والمهاجرين الذين بايعوا من قبله أبا بكر وعمر. فلا يكون تخلف معاوية وأهل الشام ناقضًا لبيعته إذا اجتمع على بيعته من اجتمع على بيعة الشيخين من قبله.
فليس لمعاوية ولا لأهل الشام أن يردوا بيعة الإمام عليه السلام، كما ليس لأهل المدينة أن يختاروا غير من اختاره شيوخ المهاجرين والأنصار. وكتاب الإمام عليه السلام إلى معاوية صريح في هذا الإفحام والإلزام لمعاوية أمام الملأ من أهل الشام بما يلتزم به، وليس في هذا الكتاب أية إشارة إلى أن الإمام عليه السلام يقرر في هذا الكتاب رأيه في مسألة (الاختيار)، وإنما هو كتاب سياسي لإحراج معاوية وإفحامه في مسألة الاختيار والبيعة.
النقطة الثانية: إن الإمام لم يكن يرى أن بيعة وجوه المسلمين وأصحاب الحل والعقد منهم سبب شرعي كاف في انعقاد الإمامة والخلافة، ولم يكن يعتقد بشرعية بيعة الخليفة حتى بعد اجتماع وجوه المهاجرين والأنصار في المدينة عليه واستقرار خلافته. وبقي الإمام قابضًا يده عن البيعة حتى رأى أن لموقفه من خلافة الخليفة مردودًا سلبيًّا على الإسلام فبايع عندئذ.
يقول عليه السلام في ذلك: فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي، أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه. فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو هدمًا تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم... فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين (5).
وكذلك كان رأي الإمام في خلافة الخليفة الثاني والثالث من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عليه السلام لما عزموا على بيعة عثمان: ولقد علمتم أني أحق الناس من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة، التماسًا لأجر ذلك وفضله، وزهدًا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه (6).
فالإمام عليه السلام يرى أن الخلافة كانت من حقه، وأن تنحيتها عنه كان جورًا سلم بها ما سلمت أمور المسلمين، إيثارًا لمصلحة الأمة على مصلحته. وفي جواب كتاب معاوية إليه عن بيعته لأبي بكر التي تمت بالرغم من رغبته، يقول عليه السلام: وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى بايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلومًا، ما لم يكن شاكًّا في دينه، ولا مرتابًا بيقينه (7).
وله عليه السلام كلام كثير وواضح في أن الخلافة كانت له من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة روى كثيرًا منها الشريف في النهج، يقول عليه السلام: فوالله ما زلت مدفوعًا عن حقي، مستأثرًا علي منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا (8).
وقال في جواب بعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به، فقال عليه السلام: يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين، ترسل في غير سدد، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسبًا، والأشدون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوطًا، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم لله (9).
ويقول عليه السلام: وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم والله، لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقًّا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه (10). ثم يقول عليه السلام: اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرًا هو لي. ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه (11).
وللإمام كلام كثير يرويه الشريف في النهج على هذا النمط. ولسنا نشك نحن في بيعة الإمام للخلفاء الثلاثة الأول، وإنما نشك كل الشك أن تكون هذه البيعة قائمة على أساس الإيمان بشرعية البيعة، وشرعية الخلافة القائمة على البيعة، أو شرعية مبدأ (الاختيار)، وإنما كانت قائمة على مصلحة وحدة الموقف الإسلامي، والإيمان بخطر انثلام هذه الوحدة على الإسلام نفسه.
ومن يقرأ (الشقشقية) لا يشك في أن الإمام كان يعتقد بأن بيعة المهاجرين والأنصار غير ملزمة له، ولا يشك أن رأي الإمام في خلافة الخلفاء الثلاثة من قبله لم يكن إيجابيًّا، ولا يشك في أن الإمام عليه السلام كان يرى أن الخلافة له من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول عليه السلام فيما جرى عليه من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبًا فإن كان كلام الإمام حجة، وكان نهج البلاغة حجة، فإن الشقشقية من كلام الإمام في (نهج البلاغة)، وإن كان غير ذلك فلا حجة في النص السابق.
وليس أقوى من هذه الكلمة نص في الدلالة على عدم اعتراف الإمام بشرعية البيعة وشرعية الخلافة القائمة على هذه البيعة، واستحقاقه للخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره.
قال مصدق (12): كان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، فقلت له: أتقول إنها - الشقشقية - منحولة؟ فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه، كما أعلم أنك مصدق. قال: فقلت له: إن كثيرًا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى. فقال: أنى للرضي، ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟ قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي (13).
والنتيجة التي نستخلصها من ضم هاتين النقطتين أن هذا الكتاب كتبه الإمام عليه السلام إلى معاوية على سبيل الجدل والإفحام له بما يعلن لأهل الشام أنه يلتزم به ويتبناه، ولا يمثل هذا الكلام رأي الإمام في شرعية مبدأ (الاختيار)، لما عرفنا بالضرورة من رأي الإمام في مسألة الاختيار، وفي خلافة الخلفاء الثلاثة من قبله، فيما رواه الشريف من كلامه في نهج البلاغة، وفيما رواه المؤرخون من موقفه من خلافة الخليفة الأول بالاتفاق، ومن دون خلاف. فهذا الكلام إذن لا يكون حجة في شرعية مبدأ (الاختيار) على كل حال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة: ص 366 كتاب 6.
(2) الأخبار الموفقيات: ص 620 رقم 405.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد: 14 / 38 - 40.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد : 14 / 36 - 37 .
(5) نهج البلاغة: ص 451 كتاب 62.
(6) نهج البلاغة: ص 102 خطبة 74.
(7) نهج البلاغة: ص 387 كتاب 28.
(8) نهج البلاغة: ص 53، خطبة 6.
(9) نهج البلاغة: ص 231، خطبة 162.
(10) المصدر السابق: ص 246، خطبة 172.
(11) المصدر السابق: ص 246، خطبة 172.
(12) هو مصدق بن شبيب بن الحسين الصلحي الواسطي، توفي ببغداد سنة 605 هجري، ذكره القفطي في أنباه الرواة.
(13) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 205 خطبة 3.
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
الشيخ علي رضا بناهيان
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
السيد عباس نور الدين
الفيض الكاشاني
الشيخ علي المشكيني
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
يوم نزول جميع الخيرات والبركات
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (7)
معرض للمصاحف المخطوطة النّادرة في أسبوع الغدير الدّوليّ
لقاء سماويّ القسمات
ماذا نصنع هذا العام لعيد الغدير؟
ماذا لو لم يكن الانفجار العظيم هو بداية الكون؟
هل توجد علاقة بين السورة القرآنية واسمها؟
آل إبراهيم والرّاشد يقدّمان في الكويت دورة بعنوان: أسرار النّجاح في العلاقة الزّوجية
آية إكمال الدين
صلة المسلمين بعيد الغدير