من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ باقر القرشي
عن الكاتب :
الشيخ باقر بن الشيخ شريف بن الشيخ مهدي بن الحاج ناصر بن الشيخ قاسم بن الشيخ محمد بن الشيخ مسعود بن عمارة القرشي .rn عالم عراقي بارز، و كاتب و محقق متخصص في التاريخ الإسلامي وسيرة المعصومين عليهم السلام.rn ولد عام 1344 هـ في النجف الأشرف / العراق .rn التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف فدرس الفقه و الأصول و العلوم الإسلامية فتخرج منها برتبة عالية .rn من أساتذته: آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره، آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره.rn مؤلفاته تجاوزت السبعين منها: حياة الرسول الأعظم (٣ مجلدات)، موسوعة حياة اهل البيت (٤٢ مجلداً).rn توفي يوم الأحد 26 رجب سنة 1433 هـ في النجف الأشرف فصلى عليه المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم قدس سره .rn دفن في مكتبته الخاصة ( مكتبة الامام الحسن عليه السلام ) في النجف الأشرف عصر يوم الأثنين الموافق 18/6/2012.rn

يوم أعلن النبيّ (ص) ولاية عليّ (ع) (2)

البيعة للإمام ضرورة إسلامية

 

الخلافة في الإسلام من العناصر الأساسية في تكوين المجتمع الإسلامي، والقوة الفاعلة في صيانة المسلمين من الاعتداء والغزو الخارجي، فهي التي تصون كرامتهم وحريتهم واستقلالهم، وتدفع عنهم غائلة القوى الكافرة التي تكيد لهم في وضح النهار وفي غلس الليل.

 

النبي (ص) والخلافة

 

اهتم النبي محمد (ص) اهتماماً بالغاً بالخلافة والإمامة من بعده؛ لأنها من أهم المراكز الحساسة في إقامة دولته، فهي امتداد لحكمه واستدامة لشريعته، وقد قرنها برسالته في بداية دعوته للإسلام حينما دعا أسرته إلى تصديقه، والإيمان بقيمه ليتخذ منهم شخصاً يؤازره على أداء رسالته فيجعله وزيراً وخليفة من بعده، فلم يستجب له أحد سوى الإمام أمير المؤمنين، فأخذ برقبته، وقال: هذا أَخِي، ووزيري، وَوَصِيِّي، وَخَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي فِيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا[1]. ومن شدة اهتمامه بالخلافة قال: مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِينَةٌ جاهلية.

 

إن النبي محمد (ص) عالج جميع قضايا المسلمين، ووضع لها الحلول الحاسمة، ومن أهمها إقامة خليفة من بعده يقيم فيهم العدالة الإسلامية، ويحكم بين الناس بشريعة الله تعالى، وأن من أوهى الآراء وأكثرها بعداً عن الصواب القول بأن النبي محمد (ص) أهمل هذه الجهة التي بها سعادة أمته وسلامتها من الانحراف، ومن المؤكد ان إهمالها وعدم التعرض لها إنما هو تدمير للبناء الاجتماعي الذي أقامه الرسول (ص)، وإلقاء للأمة في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة.

 

إن الأزمات الحادة والمنازعات العنيفة التي واجهها المسلمون في معظم عصورهم كانت ناجمة – من دون شك من الأهمال المتعمد للنصوص النبوية التي عينت الخلافة وحصرتها في أهل بيت النبوة ومراكز الوحي، دعاة الله تعالى في الأرض.

 

يقول السيد محمد الكيلاني: لقد تنازع القوم على منصب الخلافة تنازعاً قل أن نجد له مثيلاً في الأمم الأخرى، وارتكبوا في سبيل ذلك ما نتعفف نحن عن ارتكابه، فترتب على ذلك أن أزهقت الأرواح، ودمرت مدن، وهدمت قرى، وأحرقت دور، وترملت نساء، وتيتمت أطفال، وهلك من المسلمين خلق كثير[2].

 

وعلى أي حال، فالرسول الأعظم (ص) الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، والذي يعز عليه عنت أمته كيف يتركها فوضى من دون أن يعين لها القائد لمسيرتها.

 

النبي (ص) رشح علياً للخلافة

 

والشيء المؤكد – حسب الدراسات العلمية، والتأمل الجاد في السيرة النبوية ومصادر التاريخ – أن النبي محمد (ص) رشح الإمام أمير المؤمنين (ع) للخلافة، وأقامه إماماً لأمته، ويدعم ذلك النصوص المتواترة من النبي محمد (ص) في تعظيم شأنه والإشادة به، فهو باب مدينة علمه، وأنه مع الحق والحق معه، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى، وغير ذلك من مئات الأحاديث التي أثرت عنه في فضل وصيه وأبي سبطيه.

 

لماذا رشح النبي علياً

 

ويتساءل الكثيرون: لماذا رشح النبي محمد (ص) الإمام علي بن أبي طالب (ع) للخلافة، وقدمه على أهل بيته وأصحابه؟ والجواب على ذلك أنه (ص) نظر بعمق وشمول في أسرته وأصحابه، فلم ير أحداً أفضل من علي (ع) ولا أحق بالخلافة منه، لا لأنه ألصق الناس به، بل لأنه كان من أكثر المسلمين وعياً لرسالته، وأدرى بأحكام شريعته، ومعاذ الله أن يندفع الرسول (ص) وراء العاطفة التي يؤول أمرها إلى التراب.

 

لقد انتخب النبي محمد (ص) الإمام أمير المؤمنين (ع) خليفة من بعده؛ وذلك لما يتمتع به من الصفات الرفيعة، والقابليات الفذة التي لم يتمتع بها أحد سواه، ولعل من أهمها ما يلي:

 

الصفة الأولى

 

أن الإمام أمير المؤمنين (ع) كان يملك طاقات عملاقة من العلم لم يملكها أحد سواه، خصوصاً فيما يتعلق بأحكام الشريعة وشؤون الدين، ومسائل القضاء، فقد كان المرجع الأعلى فيه، وقد اشتهرت كلمة عمر فيه: لولا علي لهلك عمر، ولم يشابهه أحد من الصحابة بهذه الظاهرة، وقد ألفت بعض الكتب في روعة قضائه.

 

كما كان (ع) من أرقى القادة في العالم الإسلامي في الشؤون السياسية والإدارية، وعهده لمالك الأشتر من أوثق الأدلة الحاسمة على ذلك، فقد حفل هذا العهد الشريف بالشؤون السياسية الإسلامية بما لم يحفل به أي دستور سياسي في الإسلام.

 

وإن المتتبع في الوثائق السياسية التي دونت في نهج البلاغة يجد صوراً رائعة للسياسة الرشيدة التي لا التواء فيها، والتي تبنت العدل الخالص بجميع صوره.

 

وكما كان الإمام أمير المؤمنين (ع) أعلم المسلمين بشؤون السياسة العادلة التي لا تعرف الخداع والنفاق والتضليل، فقد كان من أعلمهم بسائر العلوم الأخرى، كعلم الكلام، والفلسفة، وعلم الحساب، والهيئة، وغيرها.

 

يقول العقاد: إن الإمام علي (ع) فتق أبواباً كثيرة من العلوم تربو على ثلاثين علماً، ومع هذه الثروات العلمية الهائلة التي يتمتع بها الإمام (ع) كيف لا ينتخبه الرسول (ص) لمنصب الخلافة التي تدور عليها استقلال الأمة وأمنها وحريتها ورخائها[3].

 

إن الطاقات العلمية اللا محدودة التي يملكها الإمام الله تقتضي بحكم المنطق الإسلامي الذي يؤثر الصالح العام على كل شيء أن يكون هو المرشح لقيادة الأمة دون غيره، فإن الله تعالى يقول: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [4].

 

وليس شيء أدعى إلى السخرية والاستهزاء من القول بجواز تقديم المفضول على الفاضل، فإنّ هذا المنطق اللاعلمي يتجافى مع القيم الإسلامية التي الزمت بتقديم العلماء على غيرهم وترشيحهم للمناصب الحساسة، وتقديم غيرهم عليهم تدمير للقيم الكريمة، وتجني على العلم.

 

الصفة الثانية

 

إن الإمام أمير المؤمنين (ع) كان من أشجع الناس وأقواهم جناناً، وقد استوعبت شجاعته النادرة جميع لغات الأرض، وهو القائل: لَوْ تَظَافَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْها، وقد قام الإسلام بسيفه، وبني على جهاده وجهوده، وهو صاحب المواقف المشهودة يوم بدر ويوم حنين ويوم الأحزاب، فقد حصد بسيفه رؤوس المشركين، وأباد أعلامهم وضروسهم، وأشاع في بيوت الجبابرة والطغاة الشكل والحزن… ولم تنفتح ثغرة على الإسلام من خصومه وأعدائه إلا تصدى لإسكاتها.

 

وقد قدمه النبي محمد (ص) على غيره، فأسند له قيادة جيشه، وما ولج حرباً إلا فتح الله تعالى على يده، وهو الذي أذل اليهود وقهرهم، وفتح حصون خيبرهم، وكسر شوكتهم.

 

إن الشجاعة من العناصر الأساسية التي يجب توفرها عند من يتولى زعامة الأمة، وإدارة شؤون البلاد، وأما إذا كان خائر القوى جباناً، فإن الأمة تتعرض للكوارث والأزمات.

 

ومع توفر الشجاعة بأسمى معانيها، وأجلى صورها في شخصية الإمام أمير المؤمنين كيف لا يرشحه النبي محمد (ص) للخلافة والإمامة من بعده.

 

إن الإمام (ع) بحكم شجاعته النادرة التي تصحبها جميع الصفات الكريمة، والنزعات الشريفة، هو المتعين لقيادة الأمة حتى لو لم يكن هناك نص من النبي محمد (ص).

 

الصفة الثالثة

 

من أهم الصفات التي يجب توفرها عند من يتصدى للخلافة نكران الذات، وإيثار مصلحة الأمة على كل شيء، والتي منها الاحتياط التام في أموال المسلمين، وإنفاقها على تطوير حياتهم، وإنقاذهم من غائلة الفقر، وكانت هذه الظاهرة من أبرز القيم في حكومة الإمام (ع)، فلم يعرف المسلمون حاكماً زهد في الدنيا ورفض جميع مباهجها كالإمام أمير المؤمنين (ع) رائد العدالة الاجتماعية في دنيا الإسلام.

 

لقد أجمع المؤرخون والرواة على أن الإمام أمير المؤمنين (ع) في أيام حكومته قد تحرج كأشد ما يكون التحرج في أموال الدولة، فلم يدخر لنفسه ولا لأهل بيته أي شيء منها، وساس المسلمين سياسة رشيدة في العطاء، وساوى بين الجميع في الحقوق والواجبات وغيرها، كما لم تقنّن في أي مذهب مثل ما قننه الإمام في سياسته الرشيدة في المثل والقيم الكريمة، وما تبناه من العدل الخالص والحق المحض.

 

الصفة الرابعة

 

من الصفات التي يجب توفرها في الإمام الذي يتصدى لزعامة الأمة أن يكون تقياً ورعاً صالحاً لا يؤثر أي شيء على طاعة الله تعالى، وهذه الصفة قد تميز بها الإمام أمير المؤمنين (ع) وحده، فكانت من أبرز صفاته، فقد تحرج عن كل ما لا يقربه إلى الله تعالى زلفى، وهو القائل: وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ جُلْبَ شَعِيرَةٍ أَسْلُبُهَا مِن فَمِ نَمْلَةٍ مَا فَعَلْتُ.

 

إن الإمام أمير المؤمنين (ع) هو داعية الله تعالى الأكبر في الأرض بعد أخيه وابن عمه النبي محمد (ص)، وقد حفل نهجه بالخطب الرائعة التي يدعو فيها إلى توحيد الله تعالى وطاعته.

 

وكان من مظاهر تقوى الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه امتنع من إجابة عبد الرحمن بن عوف حينما ألح عليه بعد مقتل عمر بن الخطاب أن يقلده الخلافة بشرط أن يلتزم بسياسة الشيخين ويسير على منهجهما فامتنع كأشد ما يكون الامتناع، وأصر على أن يسير في سياسته على وفق كتاب الله تعالى وسنة نبيه، واجتهاده الخاص، ولو كان من طلاب الملك والسلطان لأجابه إلى ذلك، ثم يسير على وفق سياسته، فإن اعترض عليه ابن عوف اعتقله وأودعه في السجون.

 

إن الإنسانية على ما جربت من تجارب، وبلغت من رقي وإبداع في عالم السياسة والحكم، فإنها لم تر حاكماً في جميع فترات التاريخ مثل الإمام أمير المؤمنين (ع) في فضله وعلمه ونزاهته وتجرده من جميع زخارف الحياة.

 

وعلى أي حال، فهذه لمحات موجزة عن شخصية الإمام (ع) فكيف لا يرشحه النبي محمد (ص) ويقيمه علماً لأمته يهديها للتي هي أقوم.

 

إن النبي محمد (ص) بصورة جازمة لا تقبل الشك قد أقام الإمام (ع) يوم الغدير خليفة ومرجعاً للأمة، وخصه بهذا المنصب لا لقاعدة الوراثة وغيرها التي يؤول أمرها إلى التراب، وإنما لتوفر الصفات الرفيعة في شخصيته، ولا نصيب من الصحة للقول بأن النبي محمد (ص) قد أهمل أمر الخلافة، ولم يعرض لها بقليل ولا بكثير، وترك الأمة تتردّى في متاهات سحيقة من الفوضى والجهل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الحديث مجمع على صحته.

[2]  الكيلاني، أثر التشيع في الأدب العربي، ص٢٥.

[3] من الغريب أن عمر لما اغتاله أبو لؤلؤة تمنى أن يكون سالم مولى أبي حذيفة حياً ليسلمه مقاليد الحكم ونسي هذا العملاق العظيم الذي لولاه لهلك عمر في موازين الفتيا والقضاء، كما أنه من الغريب كيف جعله من أعضاء الشورى وهو أدرى بمقامه وأعرف بقدراته؟!!

[4] الزمر، 9.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد