مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عادل العلوي
عن الكاتب :
السيد عادل العلوي، عالم فاضل وخطيب وشاعر، ولد في السادس من شهر رمضان 1375ﻫ في الكاظمية المقدّسة بالعراق. درس أوّلاً في مسقط رأسه، قبل أن يسافر مع أفراد عائلته إلى قمّ المقدّسة عام 1391ﻫـ ويستقرّ فيها مكبًّا على الدّرس والتّدريس والتأليف، له كثير من المؤلّفات منها: دروس اليقين في معرفة أصول الدين، التقية بين الأعلام، التوبة والتائبون على ضوء القرآن والسنّة، تربية الأُسرة على ضوء القرآن والعترة، عقائد المؤمنين، وغير ذلك. تُوفّي في السابع والعشرين من ذي الحجّة 1442ﻫ في قمّ المقدّسة، ودفن في صحن حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

ماذا حقّق الإمام زين العابدين عليه السّلام من البكاء؟

عن طريق البكاء المشفوع بالدعاء، استطاع الإمام زين العابدين (عليه السلام) أن يحقق الأغراض التالية:

 

1 ـ تقريع أو استنهاض الضمير النابض في الأمّة والذي لم يمت بعد، أي مخاطبة الفطرة السليمة، من خلال دموع ساخنة ونشيج صادق لا يمكن تفسيره ببساطة على أنّه مجرد عواطف فائرة على فجيعةٍ مرّت وكارثة حلّت، لا سيّما وأنه من إمام يعرف أكثر من غيره القضاء والقدر وحتمية الموت وطوارق السّنن...

 

2 ـ استثمار جميع المواقف والمناسبات التي تُذكّر الناس بالجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق سبط النبي وسيد شباب أهل الجنة، وعبر بكاء حارّ صادق يتفجّر أمام قصاب مثلاً يذبح شاته فيسقيها ماءً قبل ذبحها، أو أمام ضيف فقد عزيزاً فغسّله وكفّنه، أو على مائدة إفطار يُقدّم فيها الماء للعطاشى والظامئين ويكون شعارها مثلاً: «شيعتي ما إن شربتم عذب ماءٍ فاذكروني * أو سمعتـم بذبيح أو قتيـل فـاندبوني». وغير ذلك مما كان يذكّر بتجاوز الحدود، وقساوة القلوب، أي قلوب القتلة التي كانت كالحجارة أو أشدُّ قسوة، وهذا يعني تركيز الشعور بالإثم الكبير الذي ارتكب في طفوف كربلاء والذي صار عنوانه: «اللهمَّ العن أمّة قتلتك، والعن أمّة ظلمتك، والعن أمّة شايعت وبايعت على قتلك، والعن أمّة سمعت بذلك فرضيت به».

 

3 ـ إيهام السلطة الحاكمة وعيونها وأزلامها ومرتزقتها أنّ المفجوع ليس لديه إلاّ البكاء، وأنّه ليس عملاً جُرمياً يبرّر للسلطة اتخاذ إجراءٍ قمعي لمواجهته، فكيف إذا كان المفجوع باكياً فعلاً وليس متباكياً، كما هو حال الإمام (عليه السلام).

 

4 ـ وحين تختلط دموع البكاء مع تراب قبر المتوفّى، وهو ما كان يفعله الإمام حين كان يُطيل سجوده وبكاءه على التراب الذي احتفظ به من ثرى قبر والده ومسحه بخاتمه الذي أصرّ على لبسه والمحافظة عليه مع الشعار المنقوش عليه والذي كان يردده (عليه السلام): «خزي وشقي قاتل الحسين بن علي»، تكون رسالة البكاء أكثر تعبيراً وأمضى أثراً في إذكاء الوجدان المعذّب والضمير الحي وتفجيرهما ضد الظلم والظالمين.

 

5 ـ أما حين يمتزج البكاء مع الدعاء، وتتكامل لوحة الرفض المقدّس عبر العاطفة والفكر، وعبر العقل والقلب، يكون الهدف من البكاء أكثر تجليّاً وسطوعاً، وهذا ما كان يُلاحظ عند الإمام (عليه السلام) وهو يخرُّ ساجداً على حجارة خشنة في الصحراء يوماً ويشهق شهيقاً مرّاً مردّداً:«لا إله إلاّ الله حقًّا حقًّا.. لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقًّا.. لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقًا..» ثمّ يرفع رأسه وإذا بلحيته ووجهه مخضبان بدموع عينيه، فيقول له أحد أصحابه: أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقلّ؟! ويأتيه الجواب، ليكون دالّة معبّرة عن حزنٍ ليس كمثله حزن، وبكاء ليس كمثله بكاء...

 

إنّه بوضوحٍ كاملٍ حزنٌ على رمزٍ مقدّس بكت عليه أهل الأرض وملائكة السماء، وليس حزنَ ولدٍ على أبيه قط، وإنه حزنٌ على فجيعةٍ بدين، أي أنّه حزن على دين مضيّع صيّره الصبيان لعبةً يعبث بها غلمان بني أمية، ودمية تتلاقفها أكفّ أحفاد أبناء الطلقاء...

 

إنّه باختصار شديد، رسالة صامتة شديدة اللهجة، ودموع حرّى ناطقة، وبيان صارخ مشحون بعواطف البكاء النبيلة ممزوجة بثرى تراب طاهر، مشفوعاً بتأوّهات خالصة أرادت وتريد أن تواجه الظالم بأفصح ما يكون التعبير عن الرفض والغضب المقدّس وأقدس ما يكون الإفصاح عن الثورة والتمرّد.

 

إنّه سلاح ماضٍ لكشف الجرم الكبير وفضحه والدعوة لقطع اليد التي نفّذته، وأمام من؟ وبدموع من؟ بدموع الثائر المفجوع الذي لم يستطع الاستشهاد في اليوم العظيم، لمرضٍ أقعده، وعلّة ما كان يستطيع الوقوف على قدميه بسببها، فشاءت إرادة الله أن تحتفظ به ليكشف خيوط الجريمة الكبرى وهو يبكي وينشج ويقول:

 

وهنّ المنـايا أي وادٍ سلكتـه *** عليها طـريقي أو علـيّ طريقها

وكـلاً ألاقـي نكبةً و فيجعـةً *** و كأس مرارّات ذعافاً أذوقها

 

ثم يختتمها بدعاء دامع حزين: «يا نفس حتّامَ إلى الدنيا سكونك؟ وإلى عمارتها ركونك؟ أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك؟ ومن وارته الأرض من أُلاّفك؟ ومن فجعتِ به من إخوانك؟ ونُقل إلى الثرى من أقرانك؟ فحتّامَ إلى الدنيا إقبالك، وبشهواتها اشتغالك وقد رأيتِ انقلاب أهل الشهوات، وعاينتِ ما حلَّ بها من المصيبات...».

 

نعم، إنّه البكاء الهادف، والنشيج المدوّي، والدموع الناطقة، إنه رسالة صامتة شديدة اللهجة صارخة الاحتجاج، محبوكة المتن، متينة السند.. إنّه بكاء أفقه أهل زمانه وأعلمهم وأورعهم وأتقاهم، حفيد النبي (صلى الله عليه وآله)، وابن سبطه، المفجوع بقتله، الشاهد على دمه، حامل رسالته ومبلّغ أمانته ووصيه ووريثه والداعي إلى حقّه.. إنّه بكاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد