علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي (1)

شكل الكجيتو الديكارتي مع مجموعة الأفكار الفطرية أساس اليقين في المعرفة البشرية لدى الاتجاه العقلاني في أوروبا. وهو كذلك مصدر الأمان المعرفي، إذ يمكن بالعودة إليها أن نبدأ بممارسة النشاط المعرفي في كل فضاءات المعرفة، إذ مهما ضعفت ثقتنا في البناء العلوي للمعرفة، ثمة أساس ومرجعية راسخة وقوية تشكل قاعدة الأمان وتؤمن لنا الانطلاق من جديد.

 

ويقابل الاتجاه العقلاني الأوروبي على الضفة الأخرى، الاتجاه الفلسفي الإسلامي الذي يؤمن قاعدة اليقين والأمان للمعرفة البشرية وإن كان في سياق مختلف. تحتفظ الفلسفة الإسلامية للمعرفة البشرية ببنية عميقة راسخة يتم اكتشافها أولاً بالشهود الباطني، ومن ثم يتحول هذا الكشف الشهودي الباطني الى مجموعة من المفاهيم يشكلها العقل بعد اتصاله الحسي. وتتمثل قاعدة اليقين والأمان المعرفي لدى الاتجاه الفلسفي الإسلامي بمجموعة البديهيات الأولية كمبدأ العلية ومبدأ عدم التناقض، وهي بديهيات يسلم المرء بصدقها فور إدراكها.

 

ونحن هنا نحاول أن نعي ما إذا كان بالإمكان أن تتمتع العقلانية العلمية في أساس بنيتها التجريبية بقاعدة الأمان واليقين الذي يؤمن لها الانطلاق عندما يخالط المعرفة البشرية الشك وعدم الثقة. تقوم العقلانية العلمية على المستوى الأبيستمولوجي على عدم الاعتراف بالأحكام العقلية القبلية البحتة،  وعلى المستوى الأنطولوجي بعدم الاعتراف بالوجود غير المادي. وما دام الواقع المادي هو المرجعية الأساس للعقلانية العلمية في المعرف،ة فهل من تجربة أو عدد من التجارب تشكل بمجموعها قاعدة اليقين والأمان على غرار الكجيتو الديكارتي والأفكار الفطرية المودعة في صميم التكوين الإنساني كما يعتقد بذلك أصحاب الإتجاه العقلاني الأوروبي؟ وهل التجربة في ذاتها قادرة على أن تزود البشرية بقاعدة الأمان واليقين؟

 

ونحن في هذه الورقة سنثبت أن التجربة في ذاتها واستقلالًا عن العقل وأحكامه  القبلية، ستحيلنا إلى الفراغ وليس فيها ما يزودنا بالأمان واليقين المعرفي الذي يمكن دائمًا بالعودة اليه معاودة النشاط المعرفي. كما أننا سنكشف عن انفصام واضح تعاني منه العقلانية العلمية ما بين موقفها النظري وموقفها العملي، وهي ما يؤكد مدّعانا في هذه الورقة من وجود بنية لا شعورية في الفكر العلمي.

 

سنعمد إلى ممارسة تاريخية – فلسفية نستبين من خلالها فقدان هذه البنية العميقة الصلبة للمعارف البشرية والتي أسميناها قاعدة اليقين والأمان عندما نلتزم بالمرتكزات التي تقوم عليها العقلانية العلمية. ومقصودنا من هذه الممارسة أن نجعل من السياق التاريخي لتطور العلوم، مقدمات لبيان المشكلة فلسفيًّا المتمثلة بالأزمة المعرفية على ضوء الالتزام الصارم بهذه العقلانية التي تؤمن بمركزية التجربة في النظام المعرفي.

 

وبالعودة للتاريخ، والتأمل في المسار التاريخي لتطور العلوم، وبالتحديد، سنقف عند بعض المحطات التي شكلت منعطفات حادة في تطور العلوم وصنعت اتجاهات ابيستمولوجية جديدة ورؤى فلسفية للوجود، فإننا سنكتشف أن أفكارًا كانت راسخة وسائدة لفترات طويلة من التاريخ، لكنها تلاشت وانتهت بعد أن تجاوزت الإنسانية العقبة السيكولوجية التي عادةً ما تتشكل بسبب العادات الفكرية الضارة التي تحيل دون فحص الأفكار ومراجعتها. وسنكتشف أن العلاقة بين العقل والتجربة أخذت تتموضع من حيث الأهمية بشكل مختلف في مثل هذه المحطات المهمة من تطور العلوم.

 

لقد تلاشت على سبيل المثال فكرة العلاقة التي تربط بين كتل الأجسام وسقوطها باتجاه الأرض في القرن السادس عشر الميلادي بعد أن اختبر جاليلو هذه الفكرة وأثبت تجريبيًّا خطأها. لقد حققت التجربة هنا نجاحًا باهرًا بعد عن أماطت اللّثام عن زيف ذلك الاعتقاد الذي ساد الوعي الإنساني ما يقرب الألفيّ عام. هكذا تعززت مكانة التجربة ودورها في تطور العلم. لا بد هنا أن نستدرك أن المنهج التجريبي في العلوم لم يبدأ مع جاليلو، لكن مع جاليلو صنع لحظة فارقة في التاريخ الأوروبي بالخصوص.

 

لقد أدرك جاليلو أهمية الرياضيات وتطبيقها على ظواهر الطبيعة، فالطبيعة كما يعتقد مكتوبة بلغة الرياضيات. لكن الرياضيات بوصفها فاعلية ذهنية ونشاط تجريدي مع اللحظة الجاليلية هي تابعة للتجريب وتتحرك في أفقه. وبذلك مهد جاليلو لظهور اتجاه ابيستمولوجيّ في المعرفة يضع التجربة في مركز النظام المعرفي. واصلت التجربة تحقيق النجاحات في القرون التي تلت العصر الجاليلي إلى ما قبل القرن العشرين، جاعلة من النشاط العقلي تابعا لها. فالعمليات التجريبية تُترجم إلى عمليات ذهنية، عمليات تشكل مجموعة مترابطة من القواعد المنسجمة والمستقاة من التجربة. وهكذا لعب النشاط العملي للإنسان في المجالات كافة في هذه الحقبة من تاريخ المعرفة دوره في تكوين المنظومات الفكرية والتي مرجعيتها تجارب الإنسان في الطبيعة، تجاربه في الساحة الاجتماعية والاقتصادية.

 

بعد جاليلو بمائة عام تقريبًا، جاءت نظرية نيوتن في الجاذبية وكذلك نظرياته في حساب التفاضل والتكامل لتحدث ثورة علمية، ثورة  تحمل كل دلالات المعنى لهذه الكلمة، ثورة أحدثت قطيعة مع الماضي. ولكي نعي ثورية الأفكار التي جاء بها نيوتن سنستعين في هذا الصدد بأفكار توماس كون الواردة في كتابه “بنية الثورات العلمية” حول الكيفيّة التي تنمو بها العلوم دون الالتزام الكامل بآرائه.

 

يرى كون أن العلم يتطور عبر عدد من المراحل، المرحلة ما قبل العلمية وليس مهمًّا تناولها، ومرحلة العلم السوي أو القياسي normal Science وهذا يتطلب نموذجًا فكريًّا (مترجم بنية الثورات العلمية يسميه نموذجًا إرشاديًّا). و في رأي كون فإن النموذج الفكري أو الإرشادي بحسب الترجمة يشكل الوحدة الأساسية المشتركة التي يتبناها العلماء في فترة زمنية ما ومنه نتمكن من دراسة تطور العلوم .(1، ص41). وبحسب كون فإن العلم يتطور على أساس ثوري يتزلزل معها جملة من المعتقدات. فمثلاً يحدث أن  يواجه العلم السوي (القياسي) شذوذًا يتم في البداية إغفاله على أمل أن يتمكن العلماء من حلّه وفق النموذج الإرشادي المعتمد، ولكن يستمر الشذوذ بحيث لا يجدي معه أي جهد، ويتعذر على العلماء إغفال الشذوذ إلى فترة أطول، حينئذ يهتدي العلماء إلى هدم التقليد في الممارسة العلمية يعني التحول إلى نموذج إرشادي جديد يفضي لممارسة علمية جديدة. ( 1، ص34).

 

ويعتبر كون إحلال نموذج إرشادي محل آخر هو ضرورة تفرضه الممارسة العلمية، إذ لا يمكن أن يرفض العلماء نموذجًا إرشاديًّا دون إحلال البديل. يقول في هذا الصدد  فإن قرار رفض نموذج إرشادي يكون دائمًا وفي آن واحد قرار بقبول نموذج إرشادي آخ ، وإن الحكم الذي يفضي إلى هذا القرار إنما ينطوي على كل مقارنة النموذجين الإرشاديين بالطبيعة ومقارنتهما بعضهما ببعض” (1، ص 116).

 

فما الذي يحويه النموذج الفكري أو الإرشادي من معتقدات تشكل تقليدًا في الممارسة العلمية؟ دعونا نسجل أن كلام كون حول النموذج الإرشادي كما يسميه غير واضح وغير محدد لأنه يضم معتقدات ذات أبعاد تاريخية وتربوية.  وهنا ومن أجل تحديد مرتكزات النموذج الفكري، سنحيل القارئ إلى ورقة بعنوان ”ميكانيكا الكم والتحول في النموذج” كتبتها فيلسوفة العلم من جامعة الإنيويز الامريكية (Valia Allori) وفيها تسجل نفس الملاحظة التي أوردناها حول صعوبة فهم محدد ومنضبط للنموذج الإرشادي عند كون.  تقول (Valia Allori):

 

“In addition, since his( Khun) definition of Paradigm is complex and not well understood, I am going to consider that a paradigm consists of the following : 1- a world-view: a claim about what exists in the world. 2- a set of methodologies with which a scientist can account for the behavior of macroscopic objects and their properties in connection with the world-view. 3- a set of concepts to define 1 and carry out 2.” (2, p3).

 

تحدد Allori ثلاثة مرتكزات للنموذج الفكري: 1- رؤية علمية للعالم من حيث مكوناته الأساسية. 2- مجموعة من المنهجيات التي على ضوئها يستطيع العالم أن يفسر سلوك الأجسام الماكروسكوبية (الكبيرة) من خلال الرؤية العلمية للعالم. 3- مجموعة من المفاهيم التي تشرح الرؤية العالمية وتستخدم في المنهجيات. كما أنها في الورقة تحدد المعنى المقصود من التحول في النموذج فتقول:

 

“paradigm shift thesis: moving from one physical theory to the next our paradigm radically changes”( 2, p4)

 

التحول في النموذج يقتضي تغيرًا جذريًّا في النموذج المتحول عنه عندما ننتقل من نظرية إلى أخرى. وتعود Allori لتشرح ما تقصده من كلمة التغير الجذري فتقول هو أن يحدث تغير كبير في الرؤية العالمية أو المنهجيات المعتمدة أو مجموعة المفاهيم أو خليط من التغيرات التي تطرأ على هذه المرتكزات.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد