بالفعل لقد أرست أعمال نيوتن في الميكانيكا الكلاسيكية النموذج الميكانيكي/ الكلاسيكي للعالم. فهذا النموذج يمتلك رؤية قوامها أن العالم يتكوّن من جسيمات صغيرة جدًّا تشبه النقاط وتتحرك في أبعاد مكانية ثلاثة حسب معادلات نيوتن في الحركة، والحلول التي تقدمها النظرية لهذه المعادلات تحدد مسارات حركة هذه الجسيمات، وبالتالي فإن هذه الحلول تمكننا من تحديد مستقبل الحركة والكيفية التي يتطور بها هذا الجسيم في المستقبل إذا أحطنا بجميع ظروفه في لحظة ما.
فهذا النموذج يمتاز بأنه تحديدي بالكامل، وإذا نظرنا إلى هذه الميزة الرئيسية في هذا النموذج، وجدنا أنها قائمة على الإيمان بالسببية وقوانينها، حيث يتم تشبيه الحركة في الكون كآلة ميكانيكية تعمل وفق قوانين ثابتة تتصف بالاضطراد والحتمية، فكلّ سبب خاص يفضي إلى ذات النتيجة، كما أنه يمكن دائمًا التنبؤ بالنتيجة في المستقبل متى ما علمنا بالسبب الخاص.
لقد تعدّى هذا التصور الآلي للكون حدود الفيزياء ليشمل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والنفسية…الخ. ما يحدث في الكون من ظواهر طبيعية وغير طبيعية تتعلق بنشاط الإنسان هي نتيجة أسباب محددة. ويرتكز هذا النموذج على منهجية تعتمد على التركيبية compositionality والاختزالية reductionism. والتركيبية تعني أن كل جسم ماكرسكوبي مكون من جسيمات صغيرة جدًّا، و إذا استطعنا أن نتعرف من خلال النظرية على الكيفية التي تتطور فيها هذه الجسيمات فإن كل خصائص الجسم الماكرسكوبي يمكن معرفتها.
إن معرفتنا بخصائص الجسم الميكروسكوبي المبني على معرفتنا بالكيفية التي تتطور فيها الجسيمات الصغيرة المكونة له يسمى بالاختزالية. فبالإضافة إلى مفهوم السببية وهو أساسي في هذا النموذج فإنه أيضًا يملك جملة من المفاهيم حول الزمان والمكان والكتلة والطاقة والعلاقة بين الذات والواقع…الخ
في هذا النموذج الميكانيكي/الكلاسيكي للعالم يشكل العالم نظامًا مغلقًا مترابطًا كترابط الأجزاء في آلة دقيقة، وبهذا يمكن التعرف على مستقبله من خلال معرفتنا بحاضره، وعندما نصاب بالعجز عن معرفة مستقبل منظومة، ذلك لأننا لم نستطيع أن نحيط بكل التفاصيل الدقيقة والشروط البدائية التي تسمح لنا بالإحاطة بالأسباب.
يمكن أن ندرك أنه في هذا النموذج الفكري تحتل السببية مكانًا متميزًا، فكل حدث إنما يحدث لتوفر أسبابه الخاصة، ولا مجال للعشوائية في هذا النموذج. استمرت نظرية نيوتن في الجاذبية إلى ما يقرب الثلاثمائة عام ولم يشكّ أحد في صحتها وقد رافقها كما قلنا (النموذج) (البرادايم) الميكانيكي للعالم الذي يمكن من خلاله تفسير كل شيء تقريبًا.
لكن مع بداية القرن العشرين حدثت ثورة علمية جديدة، ورافق هذه الثورة تحوّل في مفاهيم أساسية، لكن هذا التحول لم يطل عصب النموذج الميكانيكي ومفاهيمه الرئيسة، أعني بذلك السببية وقوانينها، فما زال التصور الميكانيكي للعالم قائمًا، وإنما طال مفاهيم تتعلق بالزمان والمكان والجاذبية، والمادة والطاقة. هذه الثورة صنعتها النظرية النسبية الخاصة والعامة للفيزيائي ألبرت آينشتاين، وفي هذه النظرية ينظر الزمان والمكان على أنهما نسبيان والجاذبية هي انحناء يحدث في النسيج الزمكاني، والطاقة والمادة شكلان لجوهر واحد.
لقد غيرت النظرية النسبية مفاهيمنا لقضايا كانت تعدّ من البديهيات في النموذج الميكانيكي. مع ذلك فإن النموذج الميكانيكي أو الكلاسيكي للعالم لم يحدث له إزاحة بالكامل، بل أن جملة من المفاهيم القديمة وعميقة الجذور في الوعي الإنساني قد تم اجتثاثها وإحلالها بمفاهيم نسبوية، وبهذا المعنى تكون النسبية قد أحدثت ثورة حقيقية في المفاهي،م وإن لم يتحول معها النموذج الفكري. فالرؤية للمكونات الأساسية للعالم والمنهجية التركيبية والاختزالية لم تتغير، لهذا يمكننا القول باستمرارية النموذج الميكانيكي/الكلاسيكي للعالم. لقد آثبت أينشتاين محدودية نظرية نيوتن في التطبيق والمفهوم وأنها ليست كونية في اتساعها كما كانت تبدو كذلك في بداياتها. سنتوقف متأملين في المنهجية العلمية التي ولدت عنها هذه النظرية الكبيرة وكيف أنها أعادت تموضع العقل والتجربة داخل النظام المعرفي العلمي.
إن قانون نيوتن في الجاذبية هو قانون أمبريقي (من الكلمة الإنجليزية Empirical وتعني تجريبي)، لقد وضعه نيوتن كنتيجة مباشرة للتجربة، لكن مع النظرية النسبية بدا أن الفكر الرياضي المرتكز على بنية أكسيومتيكية معينة قادر على أن يفهم الحركة في الطبيعة و لم يعد المعطى الحسي – التجريبي بالأهمية البالغة كما كان الحال في القرون التي سبقت النظرية النسبية. ما يميز النظرية النسبية هو قدرة الخيال البشري في أن يلعب دورًا مهمًّا في بناء تصور خاص للعالم، وأن يضع لهذا التصور نسقه الرياضي المنطقي المحكوم بمجموعة من المبادئ والفروض الرياضية. ولو ظلّ العقل حبيس التجربة وليس ثمة وظيفه يقوم بها إلا الشرح والتفسير لما تزوده بنا التجارب من معطيات، لما استطعنا أن نصل إلى النظرية النسبية. لقد أعطى هذا النسق الأكسيومتيكي للنظرية النسبية عدد من النتائج في مرحلته التجريدية قبل أن تلعب التجربة دورها في إثبات صدق تلك النتائج أو بطلانها.
لقد أثبتت النظرية النسبية بشكل لافت أنه لم يكن بإلامكان الإحالة دائمًا للتجربة من أجل أن تتطور المعرفة، كما أنه لا يمكن حبس العقل وقدرته في حدود التجربة، فبعد قرون من تلك الصلابة التي تمتعت بها التجربة باعتبارها المعطى الحسي الأولي لممارسة عقلية من داخلها وملتزمة بحدودها، تجاوز الخيال والعقل البشري التفكير من داخل التجربة وليتحرر مع النجاح الباهر للنظرية النسبية وينطلق في آفاقه الرحبة ويساهم في تطور العلوم عن طريق توجيه التجربة وإخضاعها للنتائج المتحصلة من بنية رياضية اعتمدت تصوراً محدداً للطبيعة. كانت التجارب في القرون السابقة للقرن العشرين توجه الفكر الرياضي من أجل استخلاص مجموعة من القوانين تصف من خلالها ظاهرة معينة، لكن مع النسبية استعاد العقل أهميته ومركزيته في النظام المعرفي وأصبح هو المحفز للقيام بعمل تجريبي يتم إعداده بناءً على نتائج فرضها نسق رياضي متكامل يستند على فروض ومبادئ عقلية صرفة.
لقد صنع ألبرت آينشتاين هزة عنيفة أطاحت بمسلمات رئيسية تربعت لفترات طويلة في الوعي العلمي باعتبارها حقائق لم يشك أحد في صحتها، والأهم من ذلك أنه لم يكن بمقدور التجربة أن تثبت خطأ هذه المسلمات في الوعي العلمي. التجربة عاجزة بذاتها وفي مرحلة أولية من أن ترصد مثلاً أن الفضاء عبارة عن نسيج زمكاني له تموجاته وله قابلية التمدد والتقلص.
هذا الكشف العظيم في تاريخ العلوم كان بفضل العقل الرياضي وقدراته وطريقته الاستنباطية في الإستدلال. لقد اعتبر آينشتاين العقل الرياضي بأنه المبدأ الخلاق في العلم. ولو لم يكن العقل متحررًا في مرحلة سابقة على التجربة من أسرها لما أمكن أن تنعم البشرية بهذا الكشف الكبير. مع النسبية لم تعد التجربة مؤسسة للنظرية الفيزيائية ونجاحها يعتمد على التطابق بين معطيات التجربة وبين قوانين رياضية صيغت من خلالها، بل أن العقل يمكن أن يبدع مفاهيم فيزيائية بشكل حرّ ومستقل عن التجربة، وتأتي التجربة في مرحلة لاحقة.
هذا ما يؤكده آينشتاين في هذا النص ”أن المفاهيم الفيزيائية إبداعات حرّة للفكر البشري، وليست كما يمكن أن يعتقد، محددة فقط من طرف العالم الخارجي وحده…” (3 ، ص460). وفي التأمل في المبادىء والفروض التي قامت عليها النسبية لن نجد أنها تتجاوز المعقول وحدوده لتصنع إشكالًا فلسفيًّا. لأن الفلسفة هي فن السؤال عن كل أشكال التعالي عن المعقول وحدوده. (4 ، ص 19).
لكن مع بداية القرن العشرين أيضًا ثمة محطة فاصلة وخطيرة في تاريخ العلم خلقت إشكالاً فلسفيًّا عنيفًا في الوسط العلمي لأنها اتخذت شكلاً من أشكال التعالي المتجاوز للمعقول. هذه المحطة كانت مع النظرية الكمية في الفيزياء، هذه النظرية التي لم ينقسم العلماء في تفسيرهم لنظرية ما مثل ما انقسموا حول هذه النظرية. ولا يزال هذا الانقسام والصراع في الوسط العلمي والفلسفي حيًّا وبكل زخمه وعنفوانه، منذ اللحظة التي اكتملت فيها هذه النظرية وإلى اليوم. ويتعدد هذا الانقسام بتعدد المدارس التي سلكت طريقًا معينًا في تفسير هذه النظرية.
ولتوضيح الطبيعة الفلسفية لهذه النظرية من حيث أنها شكل من أشكال التعالي المتجاوز لحدود عقولنا وبالتالي تطرح مشاكل فلسفية (4 ، ص20) فإن أحد كبار الفيزياء النظرية (ريتشارد فيمان) يقول: ”يمكنني بكل أمانة أن أقول لا أحد يفهم النظرية الكمية”. وسنعود لاحقا لهذا الاقتباس، عندما ندلل على وجود هذه البنية العميقة واللاشعورية في الفكر العلمي. أردنا من هذا الاقتباس أن ندلل على الهوية الفلسفية التي تلبست بها النظرية الكمية باعتبار الأفكار الواردة فيها والملتزمة بروح العقلانية العلمية تتصادم وحدود المعقول وتتعالى عليه مما يؤهل هذه النظرية لإمكانات البحث الفلسفي القصوى.
فما الذي يجعل هذه النظرية تثير الدهشة وتستعصي على الفهم وتتمتع بكل هذه الإشكالية الفلسفية؟
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ باقر القرشي
د. سيد جاسم العلوي
حيدر حب الله
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
الشيخ علي رضا بناهيان
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
مهمة المفكّر المستحيلة.. كيف يهتدي المفكرون إلى سبل النجاة؟
فوائد المشي الياباني
الاتفاق على ثبوت واقعة الغدير بالثبوت التاريخي والمتواتر الصحيح (2)
يوم أعلن النبيّ (ص) ولاية عليّ (ع) (2)
الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي (2)
(كيف نفكّر ونتصرّف كما نتصرّف) جديد المترجم عدنان الحاجي
الغدير: وأتممت عليكم نعمتي
مجادلة أهل الكتاب
الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي (1)
(الملكوت) في الكتاب والسنّة والعلاقة بينه وبين المصطلح الفلسفي